هذا ماسطره محمد العريفي في (( عاشق في غرفة العمليات ))
يقول الدكتور محمد العريفي :جاؤوا يركضون .. إنهم مضطربون !! أين الطبيب ؟ هاتوا المشارط !! عجلوا بالمخدر .. الكل يردد : لا تخف .. إنها عملية بسيطة !!
سيفتحون قلبا عاشقا … قد لعب الهوى بشرايينه .. وعبثت الشهوات بعروقه .. واستقرت الدنيا في زواياه .. فصار الموت أعظم شبح يخشاه ..
وقلب آخر … سيفتح .. لكنه متعلق بالله .. امتلأ بحبه .. وقنع بقربه .. فأنزل به حاجاته .. حتى رضي بجميع قضائه ..
لقد اخترت لكم بعضا من قصص هذا الكتاب الرائع ………
المريض والمعصية
ذهبت يوما لزيارة أحد المرضى ، قد أصيب بمرض خطير .. كان المرض متمكنا منه ، وقد ضعف جسمه ، ورق عظمه ، وذبل جلده ، وكان بعض الاصحاب قد أخبرني أن الطبيب أسر إليه بأن نهايته تبدو قريبة والعلم عند الله وحده ، اقبلت أمشي بهدوء إلى غرفته ، وأنا أنتظر أن يستقبلني صوت قراءة القرآن ، وأن أرى سجادة الصلاة مفروشة ، وأن أراه منكسرا مقبلا على الله
طرقت الباب … فأذن لي بالدخول وهو لا يدري من أنا ، دخلت إلى غرفته هدوء قاتل ، ونور خافت ..
كانت الغرفة أشبه بالمقبرة .. المرآة قد غطت بملاءة بيضاء ، حتى لا يرى نفسه وينتبه لتساقط شعره فيذكر مرضه ، رآني فتهيأ للجلوس على سريره ، كان عنده مجموعة من أصدقائه أكبر همهم أن ينسوه مرضه ، يظنون أن أكبر خدمة يقدمونها إليه أن يضحكوه ، نعم يضحكوه ، كان الشاب يضحك فعلا ، أو يتظاهر بالضحك ، لا أدري !! وقد نسي أن صحيفة عمله تطوى في كل لحظة ، وان أكثر أجهزة جسمه قد تعطل عن العمل ، وأنه لا يدري في أي لحظة يموت ..
عندما جلست .. قام أحدهم إلى التلفاز وخفض من صوت الأغنية ، أحسست أنهم يشعرون بأني ثقيل ، أفسدت عليهم سهرتهم ، لا حول ولا قوة إلا بالله ما أقسى هذه القلوب ..
جعلت أتلفت في أنحاء الغرفة ، تمنيت أن أرى مصحفا ، سجادة صلاة ، مسجلا وأشرطة قرآن ، لكني مع الأسف الشديد ، لم ألحظ من ذلك شيئا ، كل ما هنالك مجلات ، إحداها على غلافها ملكة جمال فرنسا ، وأخرى على غلافها صورة أحد المطربين ، أذكر أني رأيت صورته يوما في أحد الجرائد ، ومجلة رابعة عن الرياضة والشباب ، ورابعة ، وكلها بجانبه ، ويبدو من أوراقها أنه قد تصفحها مرارا ..
في الحقيقة .. كدت أبكي وأنا أنظر إليه ، بل كنت أدافع دمعة ترقرقت في عيني مرارا ، أصحابه حاولوا جاهدين أن يشركوني في الضحك ، كنت أجاملهم وأبتسم ، جعل أحد أصحابه يتذكر موقفا طريفا ، سمع أنه وقع لي في محاضرة أو خلال لقاء تلفزيوني ليضحكه ، ويضحكني ، كان المسكين يظن نفسه خفيف الظل فجعل يطرح الكلام والتعليقات السخيفة على الآخرين ، في الحقيقة كان ثقيل الدم جدا ً ، لا تكاد تحتمله وهو ساكت فكيف إذا تكلم ، كنت أنظر إليه متكلف التبسم وأقول في نفسي .. آآآآآه ماااااا أصبرهم عليه ، لم أحتمل مجلسهم ، واستأنت خارجا ..
مشيت في ممر المستشفى خطوات .. فلما كدت أبلغ الباب قلت في نفسي : لا يجوز أن أذهب حتى أصدقه النصح ، فلعل لقائي هذا يكون الأخير ..
رجعت إليه .. أستأذنت أصحابه أن يدعوني معه برهة ، خرجوا أغلقوا الباب بهدوء ، بقيت أنا وياسر أحد بصره إلي ، أظن أنه عرف ما سأقول ، قلت له بكل صراحة : ياسر لا وقت للمجاملة ..
تعلم أنك من أحب الناس إلي .. وما زرتك وتركت أشغالي إلا شوقا إليك ، سمعت بمرضك ففجعت ، وأظن أن حزني عليك لا يقل عن حزنك على نفسي ، ولئن كنت تبكي على نفسك دمعا فأنا أبكي عليك دما ..
خفض راسه وبكى فخنقتني العبرة ..
قلت : ياسر دخلت عليك وأنا أعرفك ظننت أني سأراك على سجادتك ، أو بين يدي مصحفك ، فإذا أنت كرجل موعود بالخلود ..
ياسر .. قد أخبرك الطبيب باستفحال مرضك ، وأن أيامك في الدنيا قد تكون معدودة ، ولا أدري هل تصلي معنا الجمعة القادمة ، أم نصلي عليك ..
ازداد بكاؤه .. ياسر .. حري بمن تطوي صحيفة عمله وتعد عليه أنفاس حايته ، ومن يدري لعل كلانا كذلك ، حري به أن يتقرب إلى ربه بما يستطيع فضلا عن ترك المحرمات ، وإذا كان الصحيح المعافى مأمور بحب الله وطاعته ، فكيف بالمريض السقيم ..
ياسر .. أين ماكنت أحدثك به من قبل حول الدعاء والاستغفار والذكر ..
ياسر .. أين رقة قلبك ، ولطف تعبدك الذي عرفته فيك ..
ياسر .. أين الشجاعة والبطولة التي عهدتك عليها ، أين قولك يوما : لا بد للمرء أن يبصق في وجه الشيطان ولا يلتفت إلى وسوسته ، كيف تبعد عن الله في شدة حاجتك إليه ؟!!
ازداد بكاؤه .. واسيته بكلمات ثناء ثم خرجت من عنده ..
وبعد ثلاثة أيام صلينا عليه .. رحمه الله ورفع درجته .. آمين ..