تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » القهوة وانا ومحمود درويش عذب الكلم

القهوة وانا ومحمود درويش عذب الكلم 2024.

  • بواسطة
القهوة وانا ومحمود درويش

قهوة الصباح:

صباحكم قهوة أيها الناهضون من أسِرّة القصيدة، تفركون عيون الغياب!

.فهمت..
أنتم لا تحبون القهوة!!!
إذن لا مكان لي بين رائحة العشب المتصاعدة من ماء بئر أحلامكم..
فأنا أحب القهوة..
وقد اخترت قهوتي لهذا الصباح، اخترت ماء بئرها، ورائحة عشبها..

بعد إذنكم،
لا مكان لي هنا..
سأرحل إلى تل السنديان، لي موعد هناك مع صديق قديم، يعشق القهوة مثلي!
سنجلس معا أنا وهو، بجانب نهر الأبدية لنحتسي فنجانين من القهوة، ونتحدث قليلا عن الحب والشعر والغرباء!

نعم، سأجلس أنا ومحمود درويش ، لنكتب ذاكرة النسيان، ونُقَطِّر من إبريق قهوتها ليل الأبجدية في آنية النهار..

إذن، حسنا..
فليتكلم درويش..
أعلم أنكم قد ضجرتم من منامي على أريكة أيامكم،
أعلم أنكم ضجرتم من شِعْري ومن كلامي..
فليتكلم هو..
أما أنا فسأجلس صامتا، وسأتحدث إليه بصمت..

ها هو يطلع..
يطلع علي من الغياب،
أرمهقه بنظرة شاعر،
يرمقني بنظرة المتنبي..
يجلس..
فأجلس..
أسكب ظلي في فنجانه،
يسكب ظله في فنجاني،
نجلس كشبحين،
ونترك ظلين شريدين
قرب البنفسج يتسامران!
تمر دقيقتان..
يَلُفُّنا غيم الإستعارة،
.. يمطرنا بوابل من الصمت
لكنه يقطع السكون عن المجاز
فأفهم، من دون أدنى إشارة،
نظرته العطشى إلى السلام!
أسكب له قهوة الحجاز،
يرشفها رشفة.. فرشفة..
ثم يشعل سيجائر الكلام:

"أريد رائحة القهوة، لا أريد غير رائحة القهوة. ولا أريد من الأيام كلها غير رائحة القهوة، رائحة القهوة لأتماسك، لأقف على قدميَ، لأتحول من زاحف إلى كائن، لأوقف حصتي من هذا الفجر على قدميها، لنمضي معاً أنا وهذا النهار إلى الشارع بحثا عن مكان آخر."

ـ ولكن..
"كيف يذيع رائحة القهوة من خلاياه، وقذائف البحر تنقض على واجة المطبخ المطل على البحر لتنشر رائحة البارود ومذاق العدم؟
( … همستُ في السِّر) .

تابع قائلا:
"أريد رائحة القهوة.. أريد خمس دقائق.. أريد هدنة لمدة خمس دقائق من أجل القهوة. لم يعد لي مطلب شخصي غير إعداد فنجان القهوة.
بهذا الهوس حددتُ مهمتي وهدفي. توثبَت حواسي كلها في نداء واحد واشرأبَت عطشى نحو غاية واحدة: القهوة"
"والقهوة، لمن أدمنها مثلي، هي مفتاح النهار."
"والقهوة، لمن يعرفها مثلي، هي أن تصنعها بيديك، لا أن تأتيك على طبق. لأن حامل الطبق هو حامل الكلام.، القهوة الأولى يفسدها الكلام لأنها عذراء الصباح الصامت.
الفجر.. أعني فجري نقيض الكلام. ورائحة القهوة تتشرب الأصوات، ولو كانت تحية رقيقة مثل "صباح الخير"، وتفسد..
لذا، فإن القهوة هي هذا الصمت الصباحي، الباكر، المتأني، والوحيد الذي تقف فيه، وحدك، مع ماء تختاره بكسل وعزلة، في سلام مبتكر مع النفس والأشياء، وتسكبه على مهل وعلى مهل في إناء نحاسي صغير داكن وسري اللمعان، أصفر مائل إلى البني، ثم تضعه على نار خفيفة… آه لو كانت نار الحطب.
إبتعدْ عن النار الخفيفة، لتطل على شارع ينهص للبحث عن خبزه منذ تورط القرد بالنزول عن الشجرة وبالسيرعلى قدمين، شارع محمول على عربات الخضار والفواكه وأصوات الباعة المتميزة بركاكة المدائح وتحويل السلعة إلى نعت للسعر، واستنشقْ هواء قادما من برودة الليل، ثم عُدْ إلى النار الخفيفة ـ آه لو كانت نار الحطب ـ وراقِبْ بمودة وتؤدة علاقة العنصرين:
النار التي تتلون بالأخضر والأزرق، والماء الذي يتجعد ويتنفس حبيبات صغيرة بيضاء تتحول إلى جلد ناعم، ثم تكبر.. تكبر على مهل لتنتفخ فقاعات تتسع وتتسع بوتيرة أسرع وتنكسر، تنتفخ وتنكسر عطشى لإلتهام ملعقتين من السكر الخشن الذي ما إن يداخلها حتى تهدأ بعد فحيح شحيح، لتعود بعد هنيهة إلى صراخ الدوائر المشرئبة إلى مادة أخرى هي البن (القهوة بالعامية) الصارخ، ديكا من الرائحة والذكورة الشرقية…
أبعدْ الإناء عن النار الخفيفة لتجري حوار اليد الطاهرة من رائحة التبغ والحبر مع أولى إبداعاتها مع إبداع أول سيحدد لك منذ هذه الهنيهة، مذاق نهارك وقوس حظك. سيحدد لك إن كان عليك أن تعمل أم تتجنب العلاقة مع أحد طيلة هذا اليوم. فإن ما سينتج عن هذه الحركة الأولى وعن إيقاعاتها وعما يحركها من عالم النوم الناهض من اليوم السابق، وعما يكتشف من غموض نفسك سيكون هوية يومك الجديد…
لأن القهوة، فنجان القهوة الأول، هي مرآة اليد، واليد التي تصنع القهوة تشيع نوعية النفس التي تحركها / وهكذا فالقهوة هي القراءة العلنية لكتاب النفس المفتوح، والساحرة الكاشفة لما يحمله النهار من أسرار.

"كيف أصل إلى رائحة القهوة، كيف أموت يابساً بلا رائحة القهوة، لا أريد.. لا أريد..
فأين إرادتي؟
وقفتْ على الرصيف الثاني من الصوت الجماعي، أما الآن فلا أريد أكثر من رائحة القهوة."

"في وسعهم أن يسلطوا البحر والجو علي، لكنهم لا يستطيعون أن يقتلعوا مني رائحة القهوة، سأصنع قهوتي الآن. سأشرب القهوة الآن، لأتميز عن خروف على الأقل، لأعيش يوماً آخر، أو أموت محاطاً برائحة القهوة."

..تُبعِد الإناء عن النار الخفيفة لتجري اليد أولى إبداعاتها، ولا تكترث بالصواريخ والقذائف والطائرات.

تلك إرادتي: سأذيع رائحة القهوة لأمتلك فجري.

لا تنظر إلى الجبل الذي يبصق كتلة نارية في إتجاه يدك.
ولكنك لا تستطيع أن تنسى أنهم يرقصون هناك، يرقصون من النشوة."

.. " هناك ملعقة واحدة من البن المكهرب بالهال تُرسى ببطء على تجاعيد الماء الساخن، تحركها تحريكا بطيئا بالملعقة، بشكل دائري في البداية، ثم من فوق إلى تحت، ثم تحركها تحريكا دائريا من الشمال إلى اليمين، ثم تسكب عليها الملعقة الثالثة، بين الملعقة والأخرى أبعِد الإناء عن النار ثم أعده إلى النار، بعد ذلك "لقِّم" القهوة أي املأ الملعقة بالبن الذائب وارفعها إلى أعلى ثم أعدها عدة مرات إلى أسفل.
إلى أن يعيد الماء غليانه وتبقى كتلة من البن ذي اللون الأشقر على سطح الماء، تتموج وتتأهب للغرق لا تدعها تغرق، أطفِئ النار ولا تكترث بالصواريخ.
خُذ القهوة إلى الممر الضيق بحنان وافتنان في فنجان أبيض، فالفناجين الداكنة اللون تفسد حرية القهوة، راقِب خطوط البخار وخيمة الرائحة المتصاعدة، أشعِل سيجارتك الآن، السيجارة الأولى المصنوعة من أجل هذا الفنجان، السيجارة ذات المذاق الكوني التي لايعادلها مذاق آخر غير مذاق السيجارة التي تتبع عملية الحب، بينما المرأة تدخن آخر العرق وخفوت الصوت.
ها أنا ذا أولد، امتلأت عروقي بمخدرها المنبه، بعدما التقت بينبوع حياتها، الكافيين والنيكوتين وطقس لقائهما المخلوق من يدي."

"

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.