إذلال الفقراء مأساة الأخلاق الانسانية
كنت ذات مرة أنظر إلى ابواب احد الجمعيات الخيرية التي تعنى بجمع التبرعات وتوزيعها على الفقراء والمحتاجين، فرأيت الناس يتجمهرن أمام الباب وكأنهم في محشر عظيم ، وينتظرون الساعات الطويلة ، إلى أن يأتي عامل الجمعية فيأمرهم بكبر وصلف أمر العبيد والسوقة ، أن يشكلوا صفا ويهددهم ان لم يستجيبوا ويلازموا الهدوء انهم لن ينالوا حصة من الطعام ، ويقف مساكين الرجال والنساء في طابور تحت سياط الشمس التي تأخذ بالألباب بصورة مبتذلة فيها من الاذلال ما فيها ، ثم يوزع عليهم حصة من الطعام لا تسمن ولا تغني من جوع ..
وفي حادثة مماثلة حدثتني بها امرأة -أحسب صدقها- انها ذهبت الى أحد المتاجر تطلب معونة لتطعم اولادها الأيتام ، فأمرها صاحب المتجر أن تدخل وتغسل الأطباق وتكنس الدكان مقابل ان يعطيها بعض القروش التي لا تسد ابسط حاجاتها ، ففعلت ثم طلب منها ان تنتظر عند باب الدكان لساعتين ريثما يتم طعامه ، وما ان انتهى حتى مد يده الى ما تبقى من الطعام ودفعه اليها ولم يعطها قروشها ..
وعلمت عن حال احد التجار انه يدفع صدقة لفقير ولكنه يشترط حضور الفقير ولا يكلف احدا من عماله بها ، ويتكرر حضور الفقير مرات اليه ويعود خائب الرجاء لان صاحب المعروف يحضر اجتماعا او خارج المكتب أو مشغولا باتصال تلفوني أو غير ذلك ، وكان بوسعه ان يكلف أي احد ان يعطي الفقير حاجته ولكنه .. لا يفعل ..
وحدثني احد الصناع قائلا انني أعمل عند تاجر يعطيني اجرتي لا صدقة ولا احسانا ويشعرني دائما بانه المتفضل وصاحب نعمتي واني بدونه ما كنت لأجد ما يسد رمقي وكأنه هو الرزاق من دون الله ..
ونحوا منه عن ابن يشكوا لي أباه انه دائم المن لا يقدم لهم شيئا الا بعد ان يذلل رقابهم ويذكرهم بأنه صاحب الفضل والنعمة وان اجسادهم لم تكن لتكون على ما هي عليه لولا شقاءه وتعبه ولا يكاد يمر يوم الا وتتكر هذه الاسطوانة بلهجات مختلفة .
تأملت في هذه الصور الانسانية التي تعبر عن فقر عظيم في الأخلاق ، وسوء فهم لحقيقة المعروف وفعله ، فأدركت ان الناس بحاجة الي فقه الأخلاق أكثر من حاجتهم إلى الأخلاق .
تتجلى صورة الأخلاق في المجتمع الذي يجمع في تناوله للفضيلة بين الخلق الكريم وطريقة تناول هذا الخلق ، فالأخلاق كالسهم الموجه سينطلق من كنانته بكل تأكيد ، ولكنه اما ان يصيب مكانه المقصود فينفع ويحسن أو يخطئه فيضر ويفسد ، إذ ليس كل فاعل للمكارم من أهل المكارم لان الصورة الخارجية لا تعني حقيقة الفعل ، والناس في دعوى الأخلاق نوعان ، منهم من يفعل الأخلاق بلا فضيلة، ومنهم من يفعل الأخلاق بتمام الفضيلة ، والفيصل بينهما هو الإحسان ، فالإحسان في الأخلاق مرتبة تفوق الأخلاق بكثير وهو فقه الأخلاق الذي يجملها ويعليها ، فالبذل والإنفاق خلق كريم لا ريب فيه ولكن الريب في طريقة تناوله فما كل متصدق حقيق بمنزلة الأخلاق في البذل والإنفاق ، خلق الله الفقراء والأغنياء ليبتلي ويختبر بعضهم ببعض ، فكان الفقير امتحانا لأخلاق الغني ومدى صدقه في المعاملة مع الله تعالى من خلال هذا الفقير. فالصدقة قبل ان تقع في يد الفقير تقع في يد الله تعالى وهو سبحانه يجزي على النية لا على الفعل فلو تصدق الانسان بملئ الأرض ذهبا ونيته مشوبة بشائبة الكبر والعجب ، أو حب السمعة والجاه ، أو المن والأذى ، أو نحوا من ذلك من نواقض الصدقة لا قيمة لكل ما ينفقه ويبذله ، وعليه من الوزر مثل ما كان يرجوا من الأجر ، فهو لكي يفعل طاعة دون ادراك منه لقيمة الطاعة وضوابطها يسيء وهو يظن الاحسان ، فيجني نقيض مبتغاه .
ثم ألا يكفي الفقير واليتيم والأرملة والمسكين ما هم فيه من الفقر والحاجة ، حتى نزيدهم اذلالا وامتهانا ، ولا نعطيهم حقهم من المعروف والصدقة الا بأن نسيل الحياء من وجوههم ونمتهن كرامتهم ، فنجمع عليهم فوق مصيبتهم مصيبة المن والأذى والإذلال والمهانة ..
لقد دعا الاسلام وهو مرجع المكارم الانسانية الى اخفاء الصدقة وكتمانها إلا لبعض المقاصد المهمة حرصا منه على مشاعر الفقير واكراما لماء وجهه ان يسيل في ذل الطلب ، وحرم المن والأذى ، ودعا الى الاخلاص في النية حتى لا يجد المتصدق في صدقته فضلا يذكر لنفسه انما الفضل لله وهو مؤتمن على مال الله وحارس له ، فترى قوله تعالى (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً) اشارة بليغة ، فالسر في صدقة التطوع والعلانية في الفريضة اظهارا لشعائر الدين ولبعض مقاصد الشريعة ، وقوله تعالى (إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)
وقوله سبحانه ( لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) وقوله عليه الصلاة والسلام عن "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ" …وذكر منهم … "َ و رَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ "
وقوله "صدقة السر تطفئ غضب الرب "
وما أروع أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهو يخدم امرأة عجوز فيصنع لها الطعام والشراب ويقمُّ بيتها ، ويغسل ثيابها ، وهي لا تعرف حتى اسمه .
ولكم يهزني خلق عمر بن الخطاب يعس في الليل ويقضي حاجة الناس ويحمل لهم الصدقات على ظهره ومنهم من لا يعرف من يحملها اليه .
ومثله عن بعض السَّلف انه اتُّهِمَ بالبخل؛ لأنَّ صدقته لم تكن ظاهرة للنَّاس، كما روي عن علي بن الحسين رضي الله عنهما أنه كان النَّاس من أهل المدينة يعيشون، لا يدرون من أين كان معاشهم، فلمَّا مات عليّ بن الحسين فقدوا ذلك الَّذي كانوا يؤتون باللَّيل .
وكان بعضهم يبسط كفه ليأخذ الفقير منها لتكون يد الفقير هي العليا ..
وكان احد الفضلاء في عصرنا قد استأجر عند امرأة غرفة في ألمانيا وكانت تقتات من أجرة الغرفة ، فلما اراد أن يتركها وكان يعلم حاجتها لهذه الأجرة فطلب منها برقة ولطف ان تعلمه الالمانية بأجرة تماثل أجرة الغرفة ، لكي لا تشعر بالذلة او الحرج فهي تأخذ المال بمقابل ، وكان يتكلم الألمانية كأحد أهلها ولكنه قصد ان يساعدها ثم يحضر بعض الدروس ويعطيها الأجرة كاملة ..
ومثله عن احد الفضلاء يقول لعماله انتم شركاء في هذا المصنع لا خدم فيه فأنا وأنتم شركاء والله يرزقني بكم فلكم الفضل والمنة ، فيعين عاجزهم ويكرم فقيرهم ويواسي مريضهم ويزوج عزبهم وكل ذلك عن طريق احد عماله دون ان يعلم احد من الذي يعطيهم ويساعدهم …
ولا أنسى طربي وأنا أقرأ عن أحد الفضلاء من السلف وقد جاءه صديقه يقترض منه بعض المال ، فأعطاه حاجته وبكى ، فقالت له زوجته ان كان يشق عليه ذهاب المال هكذا كان بوسعك ان تعتذر منه ، فنظر اليها وقال ما لهذا ابكي ولكني أبكي لسوء خلقي وذاك انني لم انظر حال أخي قبل ان يحتاج وألجأته لذل السؤال اللهم اني أستغفرك وأتوب إليك ..
فما اعظم الأخلاق عندما تكون في نصابها الصحيح وميزانها الكامل ، وما اروع هذه النماذج التي تعبر عن صورة مشرقة من صور الانسانية الرائعة التي عنيت بحقيقة الأخلاق لا بصورة المكارم .فأنا لا ادعوا هنا إلى الصدقة بقدر ما ادعوا إلى الى الاحسان في تناول الصدقة وبذل الفضل .
أليس من الإحسان ان يعهد أصحاب المعروف الى السؤال والتحري الدقيق وتفقد حال الفقراء في أهل قرابتهم وجوارهم قبل ان يدفعوهم إلى ذل السؤال والطلب فنخلصهم من الحرج والاذلال اذ يكفيهم ما هم فيه من الحاجة لنزيدهم وهنا على وهن ، وأن يقوموا بإيصال الصدقة الى بيوتهم خفية دون ان يشعر بهم أحد ، وهو أمر لا يكلفهم الكثير ولكنه يعني الكثير ، ولو علم المنفق فضل نفقته لقبل يد الفقير حتى يتكرم بقبولها ..
الكاتب مصعب الأحمد بن أحمد
بارك الله في كاتب الموضوع وفيك حبيبتي
وجزالك الله الخير الكثير
أشكرك أختي