إن الليالي العشرة الأخيرة من هذا الشهر لها فضل عظيم ليس لسواها، وإن لم يكن لها فضل سوى أن بها ليلة القدر التي اختارها الله سبحانه وتعالى ليُنزل فيها القرآن الكريم وجعل ثواب العبادة فيها يكافئ بل ويزيد عن ثواب عبادة الف شهر لكفاها ذلك فضلاً، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } القدر 1-3.
وقد كان رسول الله يجتهد في العبادة فيها اكثر مما سواها كما جاءت الأحاديث الصحيحة مبينة ذلك، فقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهدفيالعشر الأواخر ، ما لا يجتهدفي غيرها ) اخرجه مسلم وصححه الألباني.
وكان رسول الله يُقضي معظم ليلها في الصلاة وتلاوة القرآن، وكان يعتزل نساءه فيها، ولكنه كان يحرص على ايقاظهن في ليلها حتى لا يفوتهن اجر قيام هذه الليالي المباركة وما فيها من خير وفضل، وقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر شد مئزره ، و أحيا ليله ، و أيقظأهله) اخرجه البخاري وصححه الألباني- والمراد بشد المئزر اعتزال النساء، وكذلك كان يفعل الصحابة والتابعون والسلف الصالح كان الرجل يستيقظ اول الليل ويوقظ امرأته وأبناءه ليغتمنوا من خير هذه الليالي المباركة.
وكان من هديه تأخير العشاء الى السحور في هذه الليالي وكذلك الاغتسال بين المغرب والعشاء قال بعض أهل العلم كان يفعل ذلك لتجديد النشاط على القيام، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان رمضان قام ونام فإذا دخل العشر شد المئزر واجتنب النساء واغتسلبينالأذانين وجعل العشاء سحورا ) ذكره بن رجب في لطائف المعارف.
وخلاصة القول في عمل هذه الليالي هو: الإعتكاف لمن يسر الله له ذلك، قضاء غالب الليل في الصلاة والإكثار من الدعاء لا سيما اثناء السجود وعقب التسليم من الصلاة، والإستغفار ولا سيما في الثلث الأخير من الليل، وكذلك الذِكر.
وأما ليلة القدر فهي فرصة لمن قامها مؤمناً بفضلها محتسباً قيامها على الله أن يُغفر له ما تقدم من ذنوبه، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي انه قال: " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومنقامليلةالقدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " متفق عليه.
وعن الدعاء فيها فقد سألت السيدة عائشة رضى الله عنها فقالت: ( يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال :" قولي : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ") صححه الألباني.
وأما عن وقتها فقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة واختلف في تحديدها أهل العلم قديماً وحديثاً ولكن أقوى وأصح ما ورد من الأحاديث فيها أنها في إحدى الليال الوترية ( الفردية) في العشر الأخيرة وهناك من أهل العلم من رجح أنها ليلة سبع وعشرين استناداً لحديث أبي بن كعب رضى الله عنه، ونذكر هنا بعض الأحاديث الصحيحة الواردة في تحديد زمنها:
فعن السيدة عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تحروا ليلة القدر في الوتر ، من العشر الأواخر من رمضان " أخرجه البخاري وغيره وصححه الألباني، وقد روي مثل هذا الحديث عبد الله بن عباس، وعبدالله بن عمر، وأبو سعيد الخدري وعدد كبير من الصحابة رضوان الله عليهم
وعن كونها ليلة السابع والعشرين فقد جاء في الحديث الصحيح أن صحابياً – اسمه زر- قال لأبي بن كعب رضي الله عنه: ( إن أخاك ابن مسعود يقول : من يقم الحول يصب ليلةالقدر . فقال : رحمه الله ! أراد أن لا يتكل الناس . أما إنه قد علم أنها في رمضان . وأنها في العشر الأواخر . وأنها ليلة سبع وعشرين . ثم حلف لا يستثنى . أنها ليلة سبع وعشرين . فقلت : بأي شيء تقول ذلك ؟ يا أبا المنذر ! قال : بالعلامة ، أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ – أي الشمس -، لا شعاع لها) اخرجه مسلم وابو داود وغيرهما، وقال الألباني حسن صحيح .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما انه قال: ( دعا عمر أصحاب محمد صلى الله عليه فسألهم عن ليلة القدر ، فاجتمعوا أنها في العشر الأواخر . قال ابن عباس فقلت لعمر إني لأعلم أو إني لأظن أي ليلة هي قال عمر فأي ليلة هي فقلت سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر فقال عمر من أين علمت ذلك قال ابن عباس فقلت خلق الله سبع سموات وسبع أرضين وسبعة أيام ، وأن الدهر يدور على سبع ، وخلق الإنسان من سبع ، ويأكل من سبع ، ويسجد على سبع ، والطواف بالبيت سبع ، ورمي الجمار سبع لأشياء ذكرها . قال فقال عمر لقد فطنت لأمر ما فطنا له وكان قتادة يزيد على ابن عباس في قوله يأكل من سبع قال هو قول الله تبارك وتعالى { فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا } الآية) رواه بن عبد البر في التمهيد .
ولكن المسلم الكيس الحريص على الا يفوته خير هذه الليلة فإنه يقتدي برسول الله ويقوم الليالي العشرة الأخيرة كاملة ومن تعذر عليه ذلك فإنه يقوم الليالي الفردية منها ويحصل ما يستطيع من الليالي الزوجية، وأنها ليلة لا تتكرر في العام إلا مرة واحدة فعلى المسلم الا يفوتها على نفسه ولا أهل بيته إذ ربما يُدرك فيها نفحة من نفحات المولى فتحصل له السعادة في الدنيا والآخرة .