قال -رحمه الله-: ((من جعل بينه وبين الله وسائط؛ يدعوهم، ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم؛ كفر إجماعاً)).
أقول: إن هذا الناقض من أكثر النواقض وقوعاً وأعظمها خطراً على المرء، لأن كثيراً ممن يتسمى باسم الإسلام وهو لا يعرف الإسلام ولا حقيقته جعل بينه وبين الرب – جل وعلا – وسائط يدعوهم لكشف الملمات وإغاثة اللهفات وتفريج الكربات، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين؛ لأن الله -جل وعلا- ما أنزل الكتب وأرسل الرسل؛ إلا ليعبدوه وحده لا شريك له، ولكن أبى ذلك عباد القبور، وجعلوا وسائط يسألونهم جلب المنافع ودفع المضار، وجعلوا ذلك هو العبادة التي أمر الله بها، ومن أنكر عليهم شيئاً من ذلك؛ رموه بعدم تعظيم الأولياء والصالحين.
وهم بزعمهم الفاسد لا يسألون الله مباشرة تعظيماً منهم لله ويقولون: إن الله لا بد له من واسطة، كما أن الملك لا يُسأل إلا بواسطة الحجاب والله أولى بذلك من الملك.
فهم والعياذ بالله شبهوا الله بالمخلوق العاجز، ومن هذا الباب دخلوا، حتى خرجوا من الإسلام، وفي الكتاب والسنة مما يبطل قولهم ويقطع دابرهم كثير.
ومن تدبر القرآن طالباً للهدى ومؤثراً للحق، تبين له ذلك وتبينت له غربة الدين، وجهل كثير من الناس بدين رب العالمين.
فمن ذلك قوله -تعالى-: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) سبأ: 22-23..
وقال -تعالى-: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً (57)) الإسراء: 56- 57..
وقال -تعالى-: (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)) يونس: 106- 107.
وقال -تعالى-: (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)) الزمر: 38..
وفي القرآن أكثر من ذلك مما يدل على وجوب إخلاص العبادة لله وحده، وعدم جعل الوسائط بينه وبين خلقه.
وقد قال -تعالى-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)) البقرة: 186..
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: ما شاء الله وشئت؛ قال: "أجعلتني لله عدلاً؟ ما شاء الله وحده رواه أحمد (1 /213 و214) من حديث ابن عباس وسنده حسن ؛ لأن الواو في قوله: "وشئت"؛ تقتضي المساواة، والله جل وعلا تفرد بالإلهية، فيجب أن يفرد بالعبودية، ولا يساوى بأحد من خلقه في جلب نفع أو دفع ضرّ.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث العظيم الذي خرَّجه الترمذي وحسَّنه عن ابن عباس: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، وإذا سألت فاسأل الله ن وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضرُّوك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام، وجفت الصحف".
والمشركون في قديم الدهر وحديثه إنما وقعوا في الشرك الأكبر لتعلقهم بأذيال الشفاعة؛ كما ذكر الله ذلك في كتابه؛ والشفاعة التي يظنها المشركون أنها لهم هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن وأبطلها في عدة مواضع: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)) البقرة: 254.. وقال -تعالى-: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) الأنعام: 51..
فهذه الشفاعة المنفية هي التي تطلب من غير الله، لأن الله – جل شأنه وعز سلطانه – أثبت الشفاعة في كتابه في عدة مواضع:
كما قال -تعالى-: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلا بِإِذْنِهِ) البقرة: 255..
وقال -تعالى-: (وَلا يَشْفَعُونَ إلا لِمَنِ ارْتَضَى) الأنبياء: 28.
وقال -تعالى-: (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً) الزمر: 44..
وقال -تعالى-: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى(26)) النجم: 26..
فعلى هذا؛ فالشفاعة شفاعتان:
أ- شفاعة منفية: وهي التي تطلب من غير الله.
ب- شفاعة مثبتة: وهي التي تطلب من الله، ولا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص، وهي زيادة على ذلك مقيدة بأمرين عظيمين:
الأول: إذن الله للشافع، كما قال -تعالى-: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلا بِإِذْنِه) البقرة: 255.
الثاني: رضا الرب عن المشفوع له؛ كما قال –تعالى-: (وَلا يَشْفَعُونَ إلا لِمَنِ ارْتَضَى) الأنبياء: 28. ؛ أي: قوله وعمله، أما المشركون؛ فتكون أعمالهم هباء منثوراً، فلا شفاعة لهم؛ معاملة لهم بنقيض قصدهم، فمن استعجل شيئاً قبل أوانه؛ عوقب بحرمانه.
وصلى الله على نبينا محمد