من أعلام الطب الإسلامي..داود الأنطاكي (الضرير)
من أعلام الطب الإسلامي..
داود الأنطاكي (
الضرير
)
د. عبدالحفيظ الحد
نتكلم في هذه الحلقة عن شخصية مرموقة في ميدان الطب الإسلامي، ألا وهي شخصية (
داود الأنطاكي
) الذي يعرف بالضرير، هذا الطبيب الذي كان علَمًا لدرجة أنه قد أطلق عليه لقب (
رئيس أطباء زمنه
)، فمن هو داود هذا؟ وأين موطنه؟ وما هي بدايته العلمية وما الذي امتاز على به غيره؟
نحاول في هذا المقال أن نكشف بعض معالم شخصية هذا الطبيب العظيم وفق الصورة التالية:
أولاً: ولادته ونشأته:
أ ـ قبيل أربعة قرون ونيف من عمر الزمن ولد في بلدة (
أنطاكية
) داود بن عمر الأنطاكي ضريرًا كسيحًا، وذلك في عام (
950هـ/1543م
) وبعد ذلك عافاه الله من مرض الكساح، ولكنه بقي ضريرًا إلى أن توفاه الله في عام 1008هـ/1599م. وذلك بعد مجاورته بمكة المكرمة لمدة سنة واحدة، فدفن قريبًا من بيت الله الحرام، ولتنتهي بذلك حياته التي قضاها في مجال الطب دراسة وتدريسًا وممارسة وتأليفًا.
ب ـ ويَعُدُّه بعض الكتّاب خاتمة عقد الأطباء المسلمين المحققين العظام الذين كانوا أساتذة في علومهم وسلوكهم المهني، بل هو أحد أولئك الذين تركوا إرثًا علميٌّا متنوعًا يبقى برهانًا وشاهدًا على شمولية معلوماتهم وعمق معارفهم، وسلامة مسلكهم، بل إن أحد كُتُبه وهو (
التذكرة
) يمكن اعتباره موسوعة في الطب.
وأما عن سعة علمه فلنتأمل الفقرة التالية:
ج ـ يقول الزركلي في ترجمته للأنطاكي: (
عالم بالطب والأدب، كان ضريرًا انتهت إليه رئاسة الأطباء في زمانه، ولد في أنطاكية، وحفظ القرآن وقرأ المنطق، والرياضيات، وشيئًا من الطبيعيات، ودرس اللغة اليونانية فأحكمها، وهاجر إلى القاهرة فأقام عدة أشهر بها، ورحل إلى مكة فأقام سنة توفي في آخرها. كان قوي البديهة يُسأل عن الشيء من الفنون فيملي على السائل الكراسة والكراستين، ولقد حصلت له نادرة من نوادر الشفاء.
د ـ يروي ابن العماد صاحب شذرات الذهب عنه أنه قد ذكر بخصوص قصة شفائه من مرض الكساح الذي كان قد ابتلى به قوله: (
إنه ولد بأنطاكية بهذا العارض. قال: وقد بلغت سيارة النجوم، وأنا لا أستطيع أن أقوم لعارض ريح تحكم في الأعصاب، وكان والدي رئيس قرية حبيب النجار، واتخذ قرب مزار سيدي حبيب رباطًا للواردين، وبنى فيه حجرات للمجاورين، ورتب لها في كل يوم من الطعام ما يحمله إليه بعض الخدام. وكنت أحمل إلى الرباط فأقيم فيه سحابة يومي، وإذا برجل من أفضل العجم يدعى محمد شريف نزل بالرباط، فلما رآني سأل عني فأخبر، فاصطنع لي دهنًا، ومددني في حر الشمس ولفّني في لفافة من فرقي إلى قدمي حتى كدت أموت، وتكرر منه ذلك الفعل مرارًا من غير فاصل فقمت على قدمي، ثم أقرأني في المنطق والرياضي، والطبيعي، ثم أفادني باليونانية
).
ثانيًا: دراسته ونشاطه في طلب العلوم ونبوغه في الطب
لقد أُثِر عن داود الأنطاكي الجد والنشاط وعلو الهمة في طلب العلم، لذلك – وعلى الرغم من كونه ضريرًا ـ فإن عاهته تلك لم تمنعه من دراسة الطب، بل ولا من التفوق فيه على أقرانه، حيث نراه قد سافر في طلبه إلى حلب ودمشق والقاهرة وآسيا الصغرى، ومعلوم كم في هذه الأسفار من مشقة على رجل ضرير مثل داود، ويرحم الله القائل:
وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت فـي مرادهـا الأجسـام
وقد ترجم له الأستاذ حكمت نجيب عبدالرحمن في كتاب تاريخ العلوم عند العرب – فقال: (
هو العلامة الطبيب الضرير داود بن عمر البصير الأنطاكي، أقام بمصر، وكانت له هناك حجرة في المدرسة الظاهرية لغرض اجتماعه بالناس ومداواة المرضى منهم. وله عدد كبير من المؤلفات صنفها بعد نزوحه إلى مصر، وقد تجاوز عددها ستة وعشرين مؤلفًا أغلبها في الطب منها: تذكرة الألباب، والجامع العجب، وكتاب البهجة، والدرة المنتخبة فيما صح من الأدوية المجربة، وفي هذين الكتابين عدد كبير من أسماء النباتات ومصادرها وقواها وأهميتها في علاج الأمراض. ولقد كان متفانيًا في سبيل طلب العلم، يسترخص كل شيء في سبيله، بل إن المؤرخين يذكرون عنه أنه كان يضحي بما عنده من إمكانات واسعة في سبيل طلب العلم. ويروى عنه أن طبيبًا مشهورًا قد نصحه بتعلم اللغة الإغريقية (
اليونانية
) من أجل الاتصال بأصول العلم، فما كان منه إلا أن بادر فورًا فبذل جهده في هذا الاتجاه حتى أتقن الإغريقية قراءة وفهمًا، ثم إنه كان رحّالة في طلب العلم، كما أنه كان مدرّسًا لم يضنّ على طلابه بنتاج تحصيله، وكان مثلاً للصالحين من العلماء المسلمين، إنساني النزعة لا يعرف التعصب لأهل بلده ووطنه، بل كان ذا أفق واسع في التعامل مع الآخرين؛ سواء كانوا طلاب علم وحكمة، أم كانوا من المرضى الذين ينشدون ثمار خبرته في مجالات الطب للبرء من سقامهم وآلامهم، وهكذا كان يستقبل الجميع بترحاب، ويقدم لهم ما أفاء الله به عليه من العلم النافع والطب الناجع. لقد كان ـ رغم علته ومصابه بفقد البصر ـ لا يسأم من استقبال المرضى بترحاب، كما كان لا يمنع علمه عن أحد، ولذلك عرفته الديار الشامية والحجازية والمصرية مدرسًا كما عرفته طبيبًا. وكان في نفس الوقت ملتمسًا للزيادة في المعرفة، فحيثما التقى بمن هو فطنة العلم جالسه مجالسة الطالب لمعلمه، كان هذا دأبه في الأمصار التي نزل بها وفي كل الأحوال. ومع هذا فالأنطاكي يتميز بنقده العلمي، أمين في تعامله المسلكي مقرونًا بموهبته الإبداعية في طرقه الطبيعية في المعالجة وصناعته للأدوية التي كان يتقنها ويمتاز بها، وتؤكد هذه المعلومات عنه بإيراد ما يذكره الدكتور محمود الحاج قاسم محمد مترجمًا له في كتاب (
الطب عند العرب والمسلمين
) يقول: (
ولد الشيخ الأنطاكي في القرن العاشر الهجري، اختص بالطب العلاجي وتحضير الأدوية والوصفات، ومن أشهر مؤلفاته كتابه الضخم (
تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب
) الذي اشتهر باسم (
تذكرة داود
) يدرج في كتابه آية في العلوم المختلفة وفي طالب العلم، وتاريخ علم الأدوية، وينقد المؤلفات التي سبقت كتبه نقدًا أمينًا).
ثالثًا: قبسات من معالم شخصيته، والتي تتبدى فيها ميزاته سواء في مجال الطب أو غير الطب:
أ ـ من أبرز ما يلاحظ في شخصية الأنطاكي سعة أفقه العلمي، وغزارة المعلومات، مع تمكنه فيما يكتب، ورسوخ قدم فيما يناقش من الموضوعات، ولعل وقفة تأمل ومقارنة لكتاب (
التذكرة
) مع بقية كتبه تبرهن على هذا، كما تدلنا على ذلك أحوال الأنطاكي، ولذلك تلاه ما يأتي في الفقرة ب.
ب ـ التزامه في ميدان الاستطباب بمضمون القاعدتين التاليتين:
1 ـ الزمن جزء من العلاج: وهذا يعني أن مرور فترة من الزمن لسراية العلاج وتمام تأثيره أمر لابد من ملاحظته في ميادين التطبيب.
2 ـ معالجة كل مريض بنباتات أرضه وبلده: وهذا من القواعد التي قررها أبقراط إذ يؤثر عنه قوله: (
عالجوا كل مريض بعقاقير أرضه فإنه أجلب لصحته
).
ج ـ ولقد ترجم أبو العلا الحنبلي في كتابه (
شذرات الذهب
) لداود فذكر لمحات عن شخصيته اختصرها بما يلي: (
داود بن عمر الأنطاكي نزيل القاهرة المعزية، والمميز على من له قيد المزية. هي التوحيد ـ بأنواع الفضائل والتفرد بمعرفة علوم الأوائل، سيما علم الأبدان المقدم على علم الأديان، فإنه بلغ فيه الغاية التي لا تدرك
).
د ـ كما قد قال عنه صاحب شذرات الذهب: (
وكان فيه دعابة وحسن سجايا وكرم. وخوف من المعاد وخشية من الله. كان يقوم الليل إلا قليلاً ويتبتل إلى الله تبتيلاً، وكان إذا سئل عن شيء من العلوم الحكمية والطبيعية والرياضية أملى ما يدهش العقل بحيث يجيب على السؤال الواحد بنحو الكراسة. ومن مصنفاته التذكرة جمع فيها الطب والحكمة ثم اختصرها في مجلده
) ولئن كان الأنطاكي موسوعيٌّا إلا أنه ذو تخصص بفن المداواة. ولقد أكد الدكتور الحاج قاسم أن الأنطاكي كان مختصٌّا بالطب العلاجي وتحضير الأدوية.
رابعًا: أهم مؤلفات الأنطاكي:
لقد ترك الأنطاكي ثروة علمية لها قيمتها في مجالات الاستطباب منها:
1 ـ استقصاء العلل وشافي الأمراض والعلل.
2 ـ أرجوزة شعرية طويلة في الطب.
3 ـ رسالة صغيرة في الحمام.
4 ـ تذكرة أولي الألباب والجامع العجب العجاب.
5 ـ تزيين الأسواق بتفصيل أشواق العشاق.
6 ـ وله كذلك رسالة النزهة المبيحة في تشحيذ الأذهان وتعديل الأمزجة وهذه الرسالة تمتاز بكون موضوعاتها تتعلق بالطب النفسي، وكذلك كتابه السابق (
تزيين الأسواق
)، ويلاحظ تعلقه بالطب النفسي فكلا الكتابين إذن يمكن تصنيفهما ضمن كتب الطب النفسي، ولا يخفى أن العلاقة بين النفس والجسد علاقة وثيقة، لذلك فالكتب السابقة ما خلت من كونها كتبًا طبية مع أن كتابيه (
التذكرة، وتزيين الأسواق
) هما اللذان حظيا بالاهتمام أكثر من غيرهما. وكتاب تزيين الأسواق طبع ببولاق في القاهرة، كما أنه طبع في بيروت.
7 ـ وقد أورد محقق كتاب (
تزيين الأسواق
) أسماء كتب أخرى لداود، لذلك نذكر ما ورد في المقدمة لتمام الفائدة حيث يقول المحقق: (
وله (
غاية المرام في تحرير المنظوم من الكلام، ونزهة الأذهان في إصلاح الأبدان، وزينة الطروس في أحكام العقول والنفوس، والنية في الطب، ونظم قانون نجك، وشرح عليه، وله تآليف كثيرة لا نطيل بذكرها، ومن أعجب ما يحكى عنه في قوة معرفته بعلامات الأمراض ما أخبرني به من أثق به بالقاهرة المعزية قال: كانت له حجرة بالمدرسة الظاهرية اتخذها لاجتماعه بالناس ومداواة أصحاب البأس، فورد عليه في بعض الأيام رجل من الأجناد جاهرًا بالسلام فلما سمع سلامه عرف مرامه، وقال: اذهب فلا شفى الله لك علة، ولا يرد لك غلة، تشرب الخمر، وتفعل ذلك الأمر، حتى يحدث لك هذا الداء، وتأتي الضرير تروم منه الدواء، ثم استتابه وشفاه من دائه بعدما أشفاه، وما فهم كنه علته إلا من تحرك شفته، وعجائبه في الباب لا تحصى، وغرائب لا تستقصى، وإذا أردت تفاصيل أحواله ومعتقداته وأقواله، فعليك بكاتب خلاصة الأثر المذكورة تجد أوصافه فيها مسطورة
)
خامسًا: وقفة مع كتاب التذكرة لداود الأنطاكي
إن من المعلوم أن كتاب التذكرة قد احتل منزلة سامية، واشتهر باسم تذكرة (
داود
) أو التذكرة لداود الضرير علمًا بأنه ـ كما قلنا ـ فإن الاسم الكامل له هو: (
تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب
) حيث إن داود الأنطاكي أدرج في كتابه خلاصة آرائه في شتى العلوم وتاريخ علم الأدوية على وجه الخصوص.
بل إنه كما يقول عنه الدكتور محمود حاج قاسم: (
ينقد المؤلفات التي سبقت كتبه نقدًا أمينًا، وعرض فيه أيضًا مئات من أنواع النباتات وأنواع الحيوان والمعادن التي اتخذ منها العقاقير والأدوية، كما ذكر قواعد أساسية في صناعة الدواء وطرق العلاج.
ذلك من بعض خريجي تلك الكلية القدامى، وقد ذكر الدكتور عبدالحليم منتصر في كتابه تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تلخيصه ملخصًا في محتويات كتاب (
التذكرة
) قال فيه:
»وقد قسم إلى ثلاثة أجزاء تتضمن مقدمة وأربعة أبواب، خص المقدمة بتعداد العلوم المذكورة في الكتاب، وحال الطب منها، ومكانته، وما ينبغي له ولمتعاطيه، وما يتعلق بذلك من الفوائد. وتكلم في الباب الأول عن كليات هذا العلم ومداخله، كما أفرد الباب الثاني لقوانين الأفراد والتركيب وأعمال السحق والغلي والقلي والجمع والإفراد والتركيب وأوصاف المقطع الملين والمفتح، وتكلم في الباب الثالث عن المفردات والمركبات وما يتعلق بها من اسم، وماهية، ومرتبة، ونفع، وضرر، وتكلم في الباب الرابع عن الأمراض وما يخصها من العلاج«.
وقال الدكتور منتصر ـ بعد ذلك: (
ويعتبر الباب من أهم أبواب الكتاب وهو متضمن المفردات والأقربازينات مرتبة على حروف المعجم فيما ورد عنه من أسماء النبات والحيوان والمعادن والعقاقير المتدخلة منها أو من عناصر أو أملاح كيماوية
).
وبعد أن ذكر هذه الأقسام التي يشتمل عليها الجزء الأول واستقصاء أسبابها وعلاجاتها وضروب معالجتها الخاصة بها وعرض نحو عشرين قاعدة جعلها دستور بحثه في هذا الجزء من الكتاب ورتب الأمراض على حسب حروف المعجم كذلك).
ولذلك قال في نهاية وصفه للكتاب: (
فتذكرة داود إنما هي عمل موسوعي ضخم
).
وأخيرًا نقول: إن ترجمتنا لهذا الطبيب تأتي إجابة ـ وللمرة الثانية ـ لبعض طلابنا الذي يظنون أن الحضارة الإسلامية كانت طفرة مؤقتة ثم انقضت. إننا نؤكد أن هذا خطأ، والحق خلاف ذلك، فالأنطاكي كان في القرن السادس عشر أي القرن العاشر الهجري والحمد لله رب العالمين.