حركات النفوس
يقول تعالى : ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفي بالله شهيدا ) النساء 79 , يقول ابن كثير : ( إن ما جرت عليه سنة كونية خيرا فهو من الله , أما إن أصابتك سيئة فيما لك منه دخل فهو من نفسك ) , فالمؤمن بين أمرين : بين لوم نفسه والثقة بحكمة أقدار الله تعالي .
تتحرك النفس مع الإنسان حركات عجيبة , فلماذا حركها الله تعالى ؟ وكيف تتحرك ؟ .
معنى تحريك النفس : أن تطلب ما تهواه وأن تؤثر دنياها , وأن تلبي كثرة متطلباتها , وأن لا تفي بعزمها , وهذا هو الرضا عن النفس , فما الحكمة الربانية في ذلك ؟ يقول ابن عطاء :
( حرك عليك النفس ليدوم إقبالك عليه )
وإقبالك على الله في ثلاث صور :
الأول : الثقة فيما ترتجيه من الله
الثاني : اللجوء إليه في ما تتقيه
الثالث : الإنابة له فيما ترتضيه
وبالتأمل في هذه الصور , نري أن النفس تتحرك على صاحبها وهو تحت المقادير , إن كان مهموما أو مبتلى أو مظلوما أو مقهورا أو مسجونا , فنفسه ترجو له الفرج والتفريج والإفراج مما هو واقع فيه , وتلح عليه بحركاتها , فمن لم يجد إيمانا في قلبه فإنه يتقطع حسرة وهما وحزنا وتضيق عليه الأرض بما رحبت , أما المؤمن فإنه يزداد ثقة في وعده وفرجه القريب , يراه كلما ضاقت به الأمور , ويستشعر به عند استحكام الحلقات عليه .
ومن حركات النفوس أنها تلح على صاحبها بأن يتقي الابتعاد عن ماله وأولاده وزوجته ووطنه ومسكنه والحبس وكبت حريته وضياع هدفه , وأمام هذا الإلحاح يلجأ المؤمن إلى الله , يستمد منه العون , ويتزود , فالله بيده الأمر ويسمع ويري , ويكفيه فخرا وتيها , أن المبتلي له هو الله , فيزداد قربا لاختياره إياه وتقديره له .
ومن حركات النفوس أنها تلح على صاحبها بكثرة متطلباتها وحظوظها وإيثار متع وشهوات دنياها , فيقع في أخطاء الرضا بذلك , التي تبعده عن ربه , وحال المؤمن أمام ما يرتضيه هو الانخلاع من منبع العيب بالإنابة والأوبة والعودة والتوبة , لتجديد السير والنهوض من جديد .
وهكذا حركات النفس تدفعك إلى مداومة الإقبال على الله في كل لحظاتك , فلا تنزعج لحركاتها , مادام قلبك عامرا بالإيمان , حيًا بالرحمن , صادق التوجه إليه تعالى , متسلحا بالعلم بربه الذي يقربك إلى الله إذا أعرض الناس عنك أو امتدت أيديهم بالإيذاء أو إذا ادلهمت الأمور , ثم بيقظتك الدائمة وملازمتك الإقبال على الله وطاعته عند كل الظروف , وبذلك يمكننا القول : أنك تستطيع أن تتخطي عقبة النفس , يقول أبو الحسن : ( أعظم القربات عند الله مقاومة النفس بقطع إرادتها وطلب الخلوص منها ما تهوى لما يرجى من حياتها , وإن من أشقى الناس من أحب أن يعامله الناس بكل ما يريد , وهو لا يجد من نفسه بعض ما يريد ) .
9 – ميادين النفوس
ربما يسأل سائل : هل كل الشر يأتي من قبل النفوس ؟ وهل النفوس هي المسئولة عن كل هذه القبائح والنواقص ؟ .
وللإجابة على هذا التساؤل علينا أن نتعرف على ميادين النفوس الثلاثة ومنها نخلص إلى أن النفوس هي المسئولة أيضا بوصفها السابق عن كل تقدم ورقي في معرفة الله والسير في طريقه فلولاها ما كان سيرا أصلا ! وهذا يحتاج إلى تفصيل وهذا ما سنحاول معرفته بعون الله وتوفيقه , فالميادين ثلاثة : ميدان القول وميدان العمل وميدان الجهاد , وهي ميادين متداخلة يسلم بعضها بعضا , وأي إهمال في واحدة يؤدي إلى خلل في التي تليها , ولذلك تحتاج إلى حراسة مع يقظة دائمة لأن الغفلة من الكدمرات الفاتكة بها .
أولا : ميدان القول :
وصاحبها يسير في طريق الغفلة , وفيها تطلب النفس حظوظها وشهواتها وهواها , وفي براثن الغفلة تنتفش القبائح ولا تدري بها النفس , وإن لهجت الألسنة بأقوال التوبة وكلام الإقلاع عن الحظوظ .
وعلاج هذا الميدان :
الإيمان ثم الاستقامة حتي تتحقق النفوس بالعمل , وبذلك تدخل في ميدانها الثاني , أرأيت كيف أن الاستقامة بدأت من المساوئ والقبائح فلولاها ما كان تقدم أوعمل .
ثانيا : ميدان العمل :
وفي ميدان العمل قد تخدع النفس صاحبها , فتراه يعلن إيمانه دون تحقيق, ويرفع إسلاما دون استقامة , فلا يتقيد بشرع ولا يحتكم لدين , ولا يتبع سنة ولا نشريعا , مع أنه من العاملين , بل نفسه تدفعه إلى غير الإسلام يستمد منه العون والقدوة , فهو كالحائر يبحث عن نجد وهو فيها , وقد أطلقوا على أصحاب هذه النفوس أنهم يسيرون في طريق الوهم مع زعمهم الالتزام , قد رفعوا العلم شعارا دون اتباع , ولم يحققوا غاية الالتزام من خشية القلب لربه , وخضوعه لمولاه .
وعلاج هذا الميدان :
بالمزيد من العمل حتي يحقق الغاية من خشية وهيبة رب العالمين وحضور القلب , والطمأنينة الدائمة , حتى يتحقق بالبصيرة ويحمل ( النفس المطمئنة ) :
( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )
وهكذا تبدد البصيرة الوهم لتتحقق النفس بالعمل المستمر والطمأنينة .
ثالثا : ميدان الجهاد :
وفي ميدان الجهاد يكثر الزاعمون للإصلاح والصلاح والعلم والدعوة والتربية , والادعاء في هذا الطريق يتعرض لامتحانات عاصفة , والمرء تفضحه شواهد الايمان , ومن ارتدي رداء الادعاء كشفته العواصف الهادرة , والعجب أن كدار هذا الزعم غالبا ما يكون في الخير , إن لم نقل كله في الخير !!.
وذلك لأن النفوس ما زالت في ميادين الإيمان والعلم والعمل فهي خاصة بالمؤمنين أما الكافرون والمنافقون فزعمهم بالصلاح والإصلاح وعمارة الكون باطل محض لأن نفوسهم مغلقة لا بصيص أمل ينتظرها بعد أن أغلقت النوافذ أصلا من الإيمان والتوحيد !! .
وعلاج هذا الميدان :
سهل وميسور , إنه الفرار إلى الله الدائم , واستمرار اللجوء إلى الله حتي تتحقق المعرفة , فتبدد سراب الزعم وتدمر ليل الدعوى , وهكذا ميدان القول غير ميدان العمل وميدان العمل غير ميدان الجهاد , ورضي الله عن عبد الله بن رواحة يوم أن ترددت نفسه في يوم مؤتة فخاطبها بقوله :
أقسمت يا نفس لتنزلن لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنة مالي أراك تكرهين الجنة
.
جزاااااك الله خييييييييييير الجزاء
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك
وجزاك الله كل الخير