كيف كانت تصرفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سن المراهقة؟
الجواب:
علينا أولاً أن نبحث في معنى المراهقة لتبيان وجه الحقيقة.
فما معنى المراهقة؟
وما منشأ هذه المراهقة؟
وهل يمكن تفاديها؟
وكيف يتم ذلك؟
أقول: إذا بحثنا في تلك الأمور جميعها تبيَّن الجواب للأخ السائل جلياً واضحاً.
أي يتبيَّن هل حقّاً أتى على رسول الله حينٌ من الدهر كان فيه مراهقاً؟!
حاشا لمن لم يصافح امرأة قط، ولم يشرب بنت الحان في الجاهلية الأولى، ولم يسجد لصنم قط ليُرضي المجتمع فيحقِّق أحلامه. هذا لم يكن، بل كان كما وصفته العرب: الصادق الأمين، الذي لم يخن أبداً والذي وصفه تعالى:
{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}سورة النجم (2).
المراهقة: مأخوذة من الإرهاق. والإرهاق: هو التعب الشديد والعنت وتكبُّد المشاق. تقول: أرهقني ذلك الأمر، أي: أتعبني وأنهك قواي.
ويتم الإرهاق نتيجة اللهث وراء شهوات الدنيا الدنية، وهذا لم يحدث للنبي الطاهر النقي، صاحب التجلِّي الإلهي القدسي.
أما عن الأحوال التي تطرأ على معظم الشباب في سن السادسة عشرة وحتى الثامنة عشرة في هذا العصر، فهي تتوافق أتم الموافقة وذلك المعنى اللغوي الذي ذكرناه عن المراهقة.
فالشاب في عصرنا في تلك السن يتصرّف ويقوم بأفعال شاذة تعود عليه بالإرهاق والتعب بشكل خاص وعلى المجتمع ككل أيضاً بالأذى والسطو والاغتصاب.
ذلك كله من جراء تلك الفورة الجنسية العارمة التي تنتابه، والسعي لتفريغ تلك الشهوات المخزَّنة المستحكمة الملحّة، وبكافة الوسائل، وذلك يتم بشكل مفاجئ بدءاً من سن السادسة عشرة حين يبلغ الشاب مبلغ الرجال وتثور فيه الغرائز الكامنة التي تشرَّبها من مجتمعه.
فيا ترى ما الشروط المسببة للمراهقة؟
وهل ثمة حادث يقع دون مسبِّب؟!
أيأتي النصب والتعب واللهث وراء نيران الشهوات الجنسية المحرَّمة دون سبب؟
بالطبع لا.
أقول: إن سبب المراهقة وسبب تلك الأمور التي تطرأ على الإنسان في تلك السن هو من جراء العلاقات التي تُشْحَنُ في النفس وما ينتج عنها من تشرُّباتٍ في سن الطفولة والصبوة، أي قبل سن السادسة عشرة.
فالمجلات الجنسية وما تهيِّجه في النفس الصافية البريئة، والأفلام الخلاعية، والأغاني المثيرة، وخلاعات المراقص والكباريهات، والمناظر الجنسية المثيرة للميل للزنا، كلها كوامن تكمن في نفس المرء في صباه فيمتلئ سقاء نفسه عهراً ودناءة وميولاتٍ سافلة منحطة.
وما أن يبلغ مبلغ الرجال حتى ينبعث ما كمن في نفس الشاب وتظهر قويةً حين تظهر غرائزه المنحرفة بما تشرَّبت قبل سن السادسة عشرة.
ولو أن نفس هذا الشاب تشربت الفضائل بمجتمع طاهر مبني على الإنسانية والسمو لما فاضت بالدناءات وعادت عليها بالعذاب والتعب الممضّْ والأحلام الجهنمية المثقلة بالعذاب، بل لامتلأت نفس الشاب من المجتمع الفاضل بالخيرات ولفاض بالمكرمات، ولما تدنست نفسه بأثقال الجرائم الاجتماعية.
فإذا تربَّى الإنسان في بيئة فاسدة وفي محيطٍ موبوءٍ كان هذا سبباً في تشرُّب الإنسان كافة الصفات المنحطة، ومن ثم الفيض بها (وكل إناءٍ بما فيه ينضح).
ذلك لأن الإنسان يأتي إلى هذه الدنيا صافي النفس نقي الفطرة، [كل مولودٍ يُولد على الفطرة..]، ولكن النفس كالمرآة: ينطبع فيها كل ما تتوجه إليه، فإن توجهت نحو الفضيلة طُبعت فيها صفات الكمال وانعكس ذلك على صفاتها. وإن توجهت نحو الرذيلة طُبع الخبث في صفحاتها وفاضت بالانحطاط والسفالات.
فإذا كان محيط الإنسان في طفولته آسناً، كان أمر انطباع الرذيلة في نفسه أمراً محققاً ولا مهرب منه، هذا إن رضي الإنسان بهذا الوضع المشين فاعتنقه وتبنّاه وسار فيه ودلَّ عليه ولم يرضَ ببديلٍ عنه.
أما إذا التجأ إلى الله وطلب منه النجاة من أوضار تلك القمامة ومهاوي تلك السفالة فسرعان ما يهيء الله لذلك الإنسان أسباب الهداية وييسِّر له سبل النجاة والسعادة ويرى ذلك الإنسان أن الله معه، آخذاً بيده مقيلاً عثرته.
بناءً على ما تقدَّم نقول: حينما يبلغ هذا الإنسان سن السادسة عشرة، ويكون قد امتلأ إناء نفسه خبثاً نتيجة مخالطتها لتلك البيئة الفاسدة، عندها وفي تلك السن تنبعث الشهوة في نفس الإنسان (أي حين يبلغ أشده)، وتكون الشهوة بمثابة محرض لخروج كل ما طُبع في النفس وما وعته من خبث وانحطاط، وهذا سبب المراهقة ومنشؤها.
فالمراهقة كسب اجتماعي انحرافي عن جادة الإنسانية والفضيلة والكمال، وهي معيار النقص وميزان العار بما يخفض من شأن وقيمة المراهق عند نفسه وعند ربه، بل وعند الناس، وحاشا لنبيٍ عظيم الذي حُرِّم عليه الرهق الذي يورده الشيطان للعميان لا على السراج المنير المحرق للشياطين.
فهو لم تلتجئ نفسه إلاَّ لرب السمو والعلو والكمال جلَّ شأنه وتشرَّبت منه تعالى أسمى الفضائل التي فاضت بها على المجتمع الجاهلي، فجعلته خير مجتمع أُخرج للناس وأمدَّه بفيوضات ربه فأصلح مجتمعات الشر بالعالم وسما بها للإنسانية الحقّة. فهو صلى الله عليه وآله وسلم لم يتعلَّق بمجتمع الجاهلية حتى يقع بالإرهاق، بل نبذه وهجره والتجأ لربِّ الناس، ففاق الناس بأخلاقه {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس}. لا لم يستعذ أبداً بالناس، وعلامة الإفلاس الاستئناس بالناس، بل لجأ لقمم الجبال الشاهقة ليوصل قلبه بربِّ الجلال والمجد والجمال حتى شهدت العرب بقولها: (إن محمداً عشق ربّه).
وتلك لعمر الحق أوج الإنسانية، إذ استأنس بربِّ العالمين فأنِسَت به الخلائق الفاضلة أجمعين، وكان رحمةً للعالمين لا إرهاقاً ولا هلاكاً. قال تعالى:{فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا}. سورة الجن (13).
محمد النبي مرهق!! والله يشهد له: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} سورة القلم (4).
أما المراهقة فللسفالة.
إذن المراهقة في سنُّ السادسة عشرة عند امرئ خبيث النفس.
فتلك السن والحالة هذه أشبه بالشعلة التي تُعطى لفتيل الانفجار عند نقطة الصفر، فينطلق من بعدها سيلٌ عرمٌ طاغي لا يُبقي ولا يذر ليخلِّف من بعد الارتكابات الآلام والحسرات. ومن هنا سمُّوا نقطة الصفر تلك (بسن المراهقة)، حيث يفيض الشاب بما أنى من دنس المجتمع المنحرف.
أما إذا حُفِطَ سمع الإنسان وبصره وجوارحه ووُضع في بيئة فاضلة لا إباحية فيها ولا رذيلة، فهذا يمر به سن البلوغ، فتراه في وضع طبيعي جداً وفي استقرار تام. وكيف يلتفت إلى تلك الميولات المنحطة وهو لا عهد له بها ولم يعرفها من قبل مطلقاً؟
كيف سيمارس ما لا يعرفه؟! هذا لا يكون أبداً.
فالغريزة الجنسية مركونة في كلِّ إنسان بالغ وهي عرضة للإثارة إذا توفَّرت الظروف الملائمة.
أما إذا لم تتوفر فهي راكنة، نائمة. هذا ما أثبته العلم النفسي وأقرَّه الواقع العملي. وبالحديث الشريف: [الفتنة نائمة لعن الله موفظها].
أقول: إن هذا الإنسان ستراه مواصلاً سيره في طريق الصلاح يسوم ويترعرع في مراتع الفضيلة، فلا مراهقة ولا سواها من هذا القبيل.
هكذا ربّى النبي الطاهرُ أصحابَه الشباب فوجَّه طاقاتهم في سن البلوغ إلى الفضيلة والكمال والرحمة والحنان والشجاعة لدحر الباطل حتى ساسوا البشرية للخير بدل أن يخضعوا لسلطان الأهواء الذي يعود عليهم بالإرهاق.
هذه قوانين ثابتة تخضع لها عامة الناس.
والآن نأتي إلى سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنرى طرفاً من كماله وعظيم شرفه العالي الرفيع، لنتبيَّن هل حقّاً ينطبق معنى المراهقة عليه؟! حاشاه.
أقول: إن رسول الله كسائر إخوانه الأنبياء والرسل الكرام، بل هو سيدهم ومرشدهم صلى الله عليه وآله وسلم. فهو ومنذ طفولته لم يَمُلْ ولم يتوجَّه ولم يهوَ ولم يشعق ولم يخالل ولم يخالط في حياته الشريفة إلاَّ الله، فهو ومن بداية عمره الشريف دائم العزلة والانقطاع عن الناس، لا سيما بالرعي والخلوة والاتصال بالله. فما حوت نفسه الشريفة الطاهرة النقية الزكية إلاَّ الله، وما تلوثت هذه النفس الطاهرة النقية؛ من الدنيا أبداً، كالماء العذب الطاهر النقي ذراتها، صلى الله عليه وآله وسلم.
فكيف وهو بهذه الصفات العالية يخاف بخساً أو رهقاً؟ {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} سورة الجن (13).
الأنبياء جاؤوا بالشيء المعاكس للمراهقة تماماً، جاؤوا هداة للعالمين دلُّوا الناس إلى طريق السعادة والخير والنعيم المقيم، فهم لم ينقطعوا بنفوسهم وقلوبهم عنه سبحانه وتعالى. وبذلك الشهود القلبي العالي المتواصل لحضرة الله فهم دوماً معصومون ومحفوظون من كل سوء، كما أنهم بذلك الإقبال على الله منبع الكمال بلغوا أوج الكمال الإنساني، فحالهم العالي الطاهر الرفيع لا يختلف سواءً أكانوا صغار السن، أم في سن الشباب، أو الرجولة، بل هم دائماً في تزايد عالٍ وتسامٍ في معارج الرقي والطهارة والكمال.
فهذا سيدنا إبراهيم جاء ومنذ حداثة سنه وعند البلوغ غدا في سن الطهارة) لا في سن المراهقة) قطعاً وأبداً لصلة نفسه بربِّه بإيمانه، إذ سلك طريق الإيمان بربِّه فحُفِظَ من سن المراهقة، وأمرنا تعالى بسلوك طريق الإيمان التي سلكها لنُعصم بصلتنا بربنا من المراهقة الجهنمية. فهو عليه السلام قد واجه أمة الكفر والضلال ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وسنَّ طريق الإيمان بالله للبشرية جمعاء كما ذكرنا. فما من إنسان سلكه إلاَّ نال السعادة الأبدية بالقرب من الله، فلا يخاف بخساً ولا رهقاً.
وهذا سيدنا يحيى عليه السلام آته الله الحُكْم صبياً، أي وهو صبي كان يعرف الحكمة من كل أمر ويضع كل أمر في نصابه، فكان طاهراً بذاته مطهِّراً لقومه وهو في سن البلوغ.
وهذا سيدنا يوسف عليه السلام: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ}: بلغ مبلغ الرجال وصار له إقبال. {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}: لِمَ الصلاة، لِمَ الصوم، لِمَ مجيئك إلى الدنيا، لِمَ خلقك؟ كل واحدة صار يعرفها. هذا الحكم نشأ عن علمه بالله. . {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}: كذلك كل من يسلك ويصبح من المحسنين نعطيه. كل محسن من أهل الإحسان يعلِّمه الله.
إذن الإرهاق والمراهقة من الشيطان، قال تعالى: {و َأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} سورة الجن (6).
فأي إنسان إذا هجر المنكر وترك طريق الشيطان فآمن وأصبح من أهل الإحسان هذا لن يخاف بخساً ولا رهقاً.
فما بالك بسيد الأنبياء والرسل قاطبةً؟! كيف سيتسرب إليه الإرهاق؟! وقد خاطبه تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس}: ِ فهو العائذ بربِّه دوماً والملتجئ إليه سبحانه، فبقي نقياً تقياً مشرَّفاً بالتجليات القدسية لا ميل له إلاَّ إلى ذي الجلال والإكرام، فنال من الطهارة والسمو ما نال.
أَكْـرِمْ بَخلْقِ نبيٍ زانَهُ خُلُـقٌ بالحسنِ مشتملٌ بالبشرِ مُتَّسمِ
محمدٌ أشرف الأعرابِ والعَجَمِ محمدٌ خيرُ منْ يمشي على قَدَمِ
والقول الفصل بهذا البحث هو: (من عرف الله عاش، ومن جهله طاش، وجاء للدنيا وراح بلاش).
والحمد لله رب العالمين
هذا البحث الفريد اقتبسناه لكم من علوم العلامة الكبير محمد أمين شيخو.
يعطيك العافيه ..
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية .
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك