السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
أخبرني زوجي اليوم أن السفر إلى بلاد الكفار (الدول الأجنبية) هو بالشيء الحرام
هل هذا الكلام صحيح؟
أرجو الرد
أولا :
نحمد الله تعالى أن أرشدك إلى الطريق الصحيح كما ذكرت ، ونسأله سبحانه أن يتم عليك نعمته ، وأن يصلح حالك وحال أولادك وأهلك إنه سميع مجيب .
ثانيا :
لا شك أن العيش في بلاد المسلمين له أثر جيد على الإنسان في طاعته وعبادته وتربيته لأبنائه ، كما أن العيش في البلاد غير الإسلامية له آثار سيئة بل مدمرة أحيانا ، خاصة على النشء الذين ينشئون في تلك البلاد . والتغلب على هذه الآثار يحتاج إلى مجاهدة عظيمة ، مع حسن تدبير ، وتربية ، وتعاون مع أهل الإسلام هناك لإيجاد بيئة صالحة ينشأ فيها الأبناء والبنات .
ومما يؤسف له أن الانتقال إلى البلدان الإسلامية ، يصعب على كثير من الناس ، لظروفهم هم ، أو لحال الدول وأنظمتها المتعلقة بالهجرة والإقامة .
ثالثا :
الإقامة في بلاد الكفر ، تارة تكون جائزة ، وتارة تكون مستحبة ، وتارة تكون محرمة ، وذلك بحسب حال المقيم ، وغرض إقامته ، ومدى قدرته على إظهار دينه . وقد أجبنا على ذلك مرات ، لكن سنضع هنا بين يديك كلاما دقيقا ، للشيخ ابن عثيمين رحمه الله ، قال :
" وأما الإقامة في بلاد الكفار فإن خطرها عظيم على دين المسلم ، وأخلاقه ، وسلوكه ، وآدابه وقد شاهدنا وغيرنا انحراف كثير ممن أقاموا هناك فرجعوا بغير ما ذهبوا به ، رجعوا فساقا ، وبعضهم رجع مرتدا عن دينه وكافرا به وبسائر الأديان ، والعياذ بالله ، حتى صاروا إلى الجحود المطلق ، والاستهزاء بالدين وأهله ، السابقين منهم واللاحقين ، ولهذا كان ينبغي بل يتعين التحفظ من ذلك ووضع الشروط التي تمنع من الهوي في تلك المهالك .
فالإقامة في بلاد الكفر لا بد فيها من شرطين أساسين :
الأول : أمن المقيم على دينه ، بحيث يكون عنده من العلم والإيمان وقوة العزيمة ما يطمئنه على الثبات على دينه ، والحذر من الانحراف والزيغ ، وأن يكون مضمرا لعداوة الكافرين وبغضهم ، مبتعدا عن موالاتهم ومحبتهم ، فإن موالاتهم ومحبتهم مما ينافي الإيمان ، قال الله تعالى : ( لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) المجادلة/22 . وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ) المائدة/ 51، 52 ، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : (أن من أحب قوما فهو منهم) ، (وأن المرء مع من أحب) .
ومحبة أعداء الله من أعظم ما يكون خطرا على المسلم ، لأن محبتهم تستلزم موافقتهم واتباعهم ، أو على الأقل عدم الإنكار عليهم ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من أحب قوما فهو منهم) .
الشرط الثاني : أن يتمكن من إظهار دينه ، بحيث يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع ، فلا يمنع من إقامة الصلاة والجمعة والجماعات إن كان معه من يصلي جماعة ومن يقيم الجمعة ، ولا يمنع من الزكاة والصيام والحج وغيرها من شعائر الدين ، فإن كان لا يتمكن من ذلك لم تجز الإقامة لوجوب الهجرة حينئذ .
قال في المغني ص 457 ج 8 في الكلام على أقسام الناس في الهجرة : أحدها من تجب عليه وهو من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه ، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار فهذا تجب عليه الهجرة لقوله تعالى : ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) النساء /97 . وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب ، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه ، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . انتهى " . "شرح الأصول الثلاثة" للشيخ ابن عثيمين رحمه الله ، ضمن مجموع الفتاوى له (6/132).
وتتمة كلام ابن قدامة رحمه صاحب "المغني" هو :
" الثاني: من لا هجرة عليه . وهو من يعجز عنها ، إما لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف ، من النساء والولدان وشبههم ، فهذا لا هجرة عليه ؛ لقول الله تعالى : ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ) . ولا توصف باستحباب ؛ لأنها غير مقدور عليها .
والثالث : من تستحب له [أي الهجرة] ، ولا تجب عليه . وهو من يقدر عليها ، لكنه يتمكن من إظهار دينه ، وإقامته في دار الكفر ، فتستحب له ، ليتمكن من جهادهم ، وتكثير المسلمين ، ومعونتهم ، ويتخلص من تكثير الكفار ، ومخالطتهم ، ورؤية المنكر بينهم . ولا تجب عليه ؛ لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة" انتهى من "المغني" (9/236) .
ثم قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" وبعد تمام هذين الشرطين الأساسيين تنقسم الإقامة في دار الكفر إلى أقسام :
القسم الأول : أن يقيم للدعوة إلى الإسلام والترغيب فيه ، فهذا نوع من الجهاد ، فهي فرض كفاية على من قدر عليها ، بشرط أن تتحقق الدعوة ، وأن لا يوجد من يمنع منها أو من الاستجابة إليها ؛ لأن الدعوة إلى الإسلام من واجبات الدين ، وهي طريقة المرسلين ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، بالتبليغ عنه في كل زمان ومكان ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( بلغوا عني ولو آية)" انتهى .
ومن ذلك يُعلم أنه يمكن أن تكون إقامة المسلم في تلك البلاد إقامة جائزة ، بل مستحبة ، إذا أظهر دينه ، ودعا إليه ، وحصّل من العلم الشرعي ما يدفع به الشبهات ، ووالى في الله ، وعادى في الله ، لكن يبقى عليه خطر البيئة المحيطة وأثرها على نفسه وأولاده ، وهذه تحتاج كما سبق إلى تعاون بين أهل الإسلام ، لتكون لديهم المراكز الدعوية العامرة بذكر الله ، الجاذبة لأبناء المسلمين وبناتهم ، ليتعلموا الخير ، وينشروا الهدى .
نسأل الله لكم التوفيق والسداد ، والبر والرشاد ، وأن يحقق لك ما تمنيت لأبنائك من الخير والفلاح .
والله أعلم .
أما السفر للسياحة فإنه لا يجوز ؛ لأن المسلم ليس بحاجة إلى ذلك ، ولا يعود عليه منه مصلحة تعادل أو ترجح على ما فيه من مضرة وخطر على الدين والعقيدة .