يحتضنهم الليل و يحتجزهم الشارع فتراهم يسيرون بأقدامهم العارية على الرصيف, يعرضون بضائعهم بأثمنة بخيسة,
حيث تطاردهم نظرات الاحتقار و من خلفهم نظرات الشفقة و الاحسان يلتقطونهم أصدقاء السوء فيجتمعون لشرب الخمر
و يختلسون أجزاءا من السجائر و يتعرضون للضرب و الركل و شتى أنواع الاهانات و الشتائم, بحيث يتحول الطفل البريء
الى مجرم زرع الزمن في قلبه الأبيض, قسوة و عدوانا, فتتهشم الأحلام و يظل الطفل المنبوذ خلف القضبان .
______________________________________
كان يجلس على حافة الرصيف و هو يحمل منادل بيضاء للبيع و بعض السجائر و يدندن مع الأغنية التي كان مصدرها داخل محل للبيع ,, أصدقائه
كانوا يركضون هنا و هناك وراء السيارات يقومون بمسح النوافذ بواسطة مناديل صفراء متسخة و كان البعض يسبهم للابتعاد عن السيارة ,,
ظل ينظر اليهم وهو لا يزال يدندن نفس الأغنية, اقترب منه ولد صغير يبلغ من العمر السادسة عشر ,, و جلس قربه و قال له :
– أحمد ماذا تفعل هنا .. !! ألن تبيع شيئا اليوم !!
فأجابه بهدوء ..
– متعب و لا أستطيع فعل شيء
فامتعض وجه ( رامي ) و قال له :
– اذا لم تبع شيئا لن تحصل على النقود, و ستتلقى العقاب من حمدان
– لم يعد يهمني أمر ذلك الوحش فل يكن ما يكن
قال له ( رامي ) وهو ينصرف
– أنت حر !! لكن كن حذرا فذلك الرجل خطير و لن يرحمك
عندما ذهب ( رامي ) لمتابعة عمله ظل ( أحمد ) جالسا في مكانه فأخد نفسا عميقا, بينما داعبت نسمات الرياح وجهه الشاحب
و هو يتذكر ذكرياته عندما كان لا يزال طفلا رضيعا في حضن أمه و عندما كان يذهب للمدرسة كباقي التلاميذ, عكس الآن فهو يكتفي
فقط بمراقبتهم عند ذهابهم و عودتهم من المدرسة ..
يتذكر اليوم الذي رأى فيه أباه و هو يتأبط دراع امرأة في احدى أبواب السينما, التفت و نظر اليه, فالتقت عينه بعيني أبيه ..
هذا كل ما حدث بعدما كثرت المشاكل في المنزل و طلق أباه أمه وتزوج من المرأة نفسها التي كان يرافقها للسينما, و تزوجت أمه
برجل جديد و ظل هو وسط ضوء أحمر لا يعرف ما يفعله, فطرده زوج أمه من المنزل وهددها بالطلاق ان اعترضت ..
على كل حال فهو يعيش الآن مع رجل فقير في منزل قديم مع رفقائه الثلاتة : ( رامي ) و ( ياسمين ), كل ما يتطلب منهم بيع المنادل البيضاء
و السجائر و احضار النقود لهذا الرجل, و كل ما تخلف عن عمله يتعرض لأشد العقاب .
قام ( أحمد ) من مكانه و ترجل في طريقه, فتبعه صديقه ( رامي ) من الخلف
– أحمد .. انتظر
أكمل ( أحمد ) مشيه كما لو أنه لم يسمع ندائه
فركض ( رامي ) بسرعة و أوقفه وهو يستعيد أنفاسه من كثرة الركض
– قف .. قف ,, ألا تسمع !!
أجابه ( أحمد )
– مابك ,, ماذا تريد !!
– تصرفاتك اليوم غير طبيعية !! ما الذي جرى لك !!
– لم يعد هنالك شيء للبقاء مع ذلك الرجل سأرحل يا صديقي
دهش ( رامي ) لكلام ( أحمد ) و قال له :
– ماذا تقول !! و أين تريد أن تذهب !!
– سأظل هنا في الشارع خير لي من اعطاء نقودي كلها لذلك الرجل
– لا تكن أحمق ,, على الأقل نجد ما نأكله و نرقد للنوم ليلا
أجابه بلا مبالاة
– سيكون كل شيء على ما يرام ..
صرخ ( رامي ) و قال :
– مابك !! ماذا جرى لك !! اذا بقيت هنا ستتعرض للسرقة و الضرب و الاغتصاب تحت التهديد, لا تكن متهورا
نظر اليه ( أحمد ) و قال :
– أتعتقد بأنني ضعيف الى هذه الدرجة, بامكاني المدافعة عن نفسي
ازداد الغضب بـ ( رامي ) و قام بخطوة للوراء و قال :
– افعل ما شئت ,, هذه هي الصداقة التي جمعتنا نحن الثلاتة ,, افعل ما شئت
ركض ( رامي ) مبتعدا و الدموع تتساقط من أعينه و تنهمر على خده فتسرقها الرياح بموجات خفيفة ..
ظل ( أحمد ) قرب الجسر و هو ينظر الى البحيرة …
. ،، .
عندما حل الظلام عاد ( رامي ) الى المنزل و قام بفتح الباب بواسطة مفتاح صغير, فاتجه مباشرة الى الطابق العلوي,,
حيث يجتمع هو و أصدقائه, فوجد فقط الفتاة و قال لها :
– ياسمين !! ألم يأتي أحمد بعد .. !!
التفتت اليه الفتاة الصغيرة, لقد كانت آية في الجمال .. شعرها أحمر و عيونها زرقاء و قالت :
– لا لم يأتي بعد .. !! لا تقلق سيدخل قريبا
أجابها و الحزن على وجهه
– لا .. لن يعود الى هنا مجددا, لقد أخبرني أنه سيظل في الشارع
كأن صدمة قوية صفعت وجه ( ياسمين )
– ماذا تقول !! لن يعود هنا مجددا !! و ماذا سيفعل في الشارع !!
– لا أعلم .. !! لا أعلم !!
انتفضت ( ياسمين ) من مكانها و قالت :
– يجب علينا الذهاب للبحث عنه قبل مجيء حمدان
اقترب منها ( رامي ) ووضع يده على كتفها و قال لها :
– اجلسي .. لن تجديه فالمكان مظلم في الخارج
أبعدت ( ياسمين ) يده عنها و ركضت نحو الباب
– لا سأذهب لن أتركه وحيدا
و اعترض ( رامي ) طريقها عند آخر الباب
– ياسمين لا تتهوري, ان خروجك في هذا الوقت يشكل خطرآ على حياتك
اغرورقت أعين ( ياسمين ) و قالت بصوت مخنوق
– و ماذا بوسعنا أن نفعل !! هل نتركه وحيدا في الشارع لكي يلتهمه الذئاب .. !!
ظلت ( ياسمين ) تبكي طوال الليل و ( رامي ) ينصت لصوت بكائها و هو في حيرة مع نفسه ..
. ،، .
على قطرات الشتاء فتحت ( ياسمين ) أعينها و ظلت تنظر الى سقف المنزل, و بعد مرور لحظات قصيرة, أخرجت قلادة ذهبية
صغيرة فتذكرت أول لقاء لها بـ ( أحمد ), عندما ضحكت عليه و سرقت منه قلادته الذهبية فركض ورائها و أمسك بها
و خاطبها بأسلوب قاسي
– أتحسبين نفسك ستضحكين علي ..
و عندما هزت رأسها و نظرت اليه, ظل صامتا ينظر اليها و كأنه أصم و لا يعرف ما يضيفه لكلامه, فثلعتم في الكلام و قال :
– أعيد .. أعيدي لي قلادتي .. !!
أجابته بصوت رقيق
– ابتعد عني يا هذا !! أنا لا أحمل شيء
و أبتعد عنها و تركها تذهب, كان منظره مضحك كما لو أنه لم يشهاد فتاة فقط ..
ضحكت ( ياسمين ) و هي تعيد القلادة الى مكانها
في اليوم التالي التقت به في احدى الشوارع يجلس كعادته قرب حافة الرصيف, فاقتربت منه و جلست,, لا حظ مجيئها و جلوسها قربه
لكنه لم يلتفت للنظر اليها فمدت يدها بلطف
– تفضل .. !!
نظر اليها و هو مستغرب لتصرفها فقالت :
– تفضل قلادتك أنا لست سارقة فقط أردت أخدها
ضحك و قال :
– و ما الفرق بين الأخد و السرقة .. !!
ظلت ( ياسمين ) صامتة لم تجب بكلمة واحدة, فصمت ( أحمد ) هو الآخر
فتكلمت ( ياسمين ) و قالت :
– لا أعلم ماذا أقوله لك, القلادة الذهبية أعطتها لي أمي قبل و فاتها و عندما شاهدتها عندك اعتقدت أنها هي ..
فدخل الذهول لـ ( أحمد ) و طرح السؤال عليها
– و أين هي قلادتك !!
تجاهلت ( ياسمين ) سؤاله و تابعت الحديث
– عندما كنت صغيرة توفي أبي و تبعته أمي, و كانت القلادة هي الشيء الوحيد الذي يذكرني بـ أمي و بعد اتمام مراسم الدفن,
أخذتني أختها الى منزلها لترعاني, قضيت سنتين معها و عندما بلغت الرابعة عشر من عمري أصبحت خالتي تتشاجر دائما مع زوجها
و كثرت المشاكل, فقررت مغادرة منزل خالتي الى الأبد و عندما غادرت المنزل, ابتدأت رحلة جديدة في الشوارع,
وقد اعترضوا طريقي بعض الشباب و سرقوا مني قلادة أمي ..
فقامت و مدت يدها مرة أخرى تعطيه القلادة و نظرت اليه و حركت رأسها كما لو أنها تشير له بأخدها, فقام بامساك يدها و أغلق
أصابعها على القلادة و قال :
– خديها فهي منذ الآن لكي ,, لست بحاجة اليها خذيها
فتحت ( ياسمين ) عينيها من الدهشة و أجابته
– لا .. لن آخدها فهي ليس قلادة أمي التي أبحث عنها
ضحك ( أحمد ) و قال :
– هـه ,, أتعتقدين أنكي ستجدينها .. !!
أجابته بيأس
– لا أعتقد ذلك
فقال ( أحمد ) :
– لعلها الآن في عنق فتاة أخرى لا تشغلي بالك بهذا الموضوع
قامت بسحب القلادة وو ضعتها في جيبها
فقال ( أحمد ) :
– أنتي فتاة صغيرة و تواجدك لوحدك في الشارع يشكل خطرآ على حياتك, أدعوكي لمرافقي الى منزل رجل اسمه .. حمدان
أسكن معه أنا و صديقي رامي ..
حركت أرجلها في الأرض و قالت و هي تخفي ابتسامتها
– في الواقع أنا بحاجة الى مسكن ..
هكذا كانت قصة ( ياسمين ) مع ( أحمد )
كانت تتحدث مع نفسها و هي لا تزال نائمة على غطاء في الأرض
– لن أتركك وحيدا مهما كان سأذهب ..
نهضت من مكانها و قامت بغسل وجهها بينما كان ( رامي ) لا يزال نائما, تركته و خرجت من الباب و اتجهت مباشره للشارع
تبحث عن ( أحمد ) ..
بعد مرور ساعتين من البحث تذكرت مكانه المعتاد فذهبت نحو الجسر ووجدته يرمي الحجارة في النهر, فركضت نحوه و هي تصرخ
– أحمد .. أحمد
أوقف رمي الحجارة و نظر اليها, فقالت له :
– أحمد .. أين كنت لقد بحث عنك كثيرآ !!
– لا تقلقي أنا بخير .. أين هو رامي !!
– لقد تركته في المنزل, لا يزال نائما
ابتسم ثم قال :
– كالعادة
اقتربت منه ( ياسمين ) و قالت له :
– أعتقد أن كلام رامي صحيح !!
أجابها ( أحمد )
– دعينا من هذا الكلام ..
فقام باخراج النقود من جيبه, فأخد الذهول ( ياسمين ) و قالت :
– ألف مئة درهم !! من أين لك هذا المبلغ !!
ضحك و قال :
– لا داعي للأسئلة ,, انظري الآن ماذا لدينا
فنظرت اليه بسرور و قالت :
– أحمد لا تقل لي بأنك سرقت المتجر الذي كنا نقف فيه لرؤيته دائما
أعاد النقود الى جيبه و قال :
– و هو كذلك
ضحكت ( ياسمين ) و قالت :
– كنت أعلم أنك ستفعلها
ضحك هو الآخر, فقالت ( ياسمين ) :
– ماذا ستفعل بالنقود !!
أجابها و هو يبتسم
– سنعيش كبقية البشر لمدة يومين أو يوم واحد
تحرك من مكانه و قال :
– تعالي ..
تبعته ( ياسمين ) و هي تسأله
– لم أفهم !! الى أين .. !!
. ،، .
كانت الأضواء منتشرة في كل مكان و الألعاب هنا و هناك و الحلويات بأثمنة بسيطة و الأباء يتجولون مع أبنائهم
و الفرحة تعم المكان, ظلت ( ياسمين ) تنظر الى الأضواء في دهشة كما لو أنها لم ترى ذلك من قبل, بينما
كان ( رامي ) يراقب الحلويات الملونة بالأصفر و الأخضر,, فيما كان ( أحمد ) يقطع أوراق اللعب لكي يلعبوا في الدائرة التي تدور في السماء,
ضحكت ( ياسمين ) فعاد ( أحمد ) بالأوراق و قال :
– سنركب الآن ..
جلس الثلاتة على المقعد, و بعد قليل انطلقت الدائرة بالدوران بسرعة فائقة, شعرت ( ياسمين ) و ( رامي ) بالضحك
لقد كانا يتصرفان بطريقة غريبة كما لو أنه أجمل يوم في حياتهما, بينما كان يكتفي ( أحمد ) بابتسامة .. كلما نظرت اليه ( ياسمين )
و هي تضحك بأعلى صوتها ..
عندما انتهوا من اللعب وقفت ( ياسمين ) وهي تضحك و تقوم بدفع ( رامي ) فقال لها :
– لنذهب لشراء شيء نأكله ..
قضوا النهار كله وهم يلعبون و يأكلون, كانت الضحكات تتعلى في وجه ( ياسمين ) و ( رامي ) .. و ( أحمد ) ينظر اليهما
و هو في غاية السرور ..
عند حلول العاشرة ليلا كان التعب قد ألحق بيهم فجلسوا على حافة الرصيف فقالت ( ياسمين ) :
– لا يجب علينا أن نصرف كل ما بقي لنا من نقود, فكما تعلمون حمدان لم يلاحظ غياب أحمد البارحة و لم يطلب منا النقود
قاطعها ( رامي ) و قال :
– لا أعلم لماذا .. !!
هزت ( ياسمين ) كتفيها و تابعت حديثها
– لا أعلم !! كل ما يجب علينا فعله العودة للمنزل و اعطائه نقود البارحة المتواجدة في غرفة المنزل, و نقود اليوم
سنأخذها من عند أحمد لكي لا نتعرض للعقوبة ..
و بينما كانت ( ياسمين ) تكمل حديثها و اذا بـ ( أحمد ) ينتفض من مكانه و يقول :
– انظروا من القادم ..
التفتت ( ياسمين ) و هي في غاية الدهشة !!!
لقد كان ( حمدان ) يقترب منهم بجسده الضخم و هو يسرع للقبض عليهم
فقال ( رامي ) بخوف
– لنذهب بسرعة قبل أن يقبض علينا
فأطلقى سيقانهم للركض, بينما تبعهم ( حمدان ) وهو يركض ورائهم بسرعة فائقة, بالرغم من أنه انسان كبير فلا يزال
يتمتع بالقوة الكافية ..