إن كل إنسانٍ يبحث لنفسه عن السعادة في الدنيا، والنجاة في الآخرة، والإنسان العاقل هو الذي يختار الطريق الصحيح، الذي يوصله لغايته، ويحقق له هذين الأمرين معًا.
وطريق السعادة والنجاة يكمن في التجارة مع الله عز وجل؛ لأنه هو خالق الإنسان، وهو الذي يرزقه، وعندما يموت يعود إليه؛ ليحاسبه على ما قدَّم، فالعاقل هو الذي يعمل على إرضاء سيده، حتى يحقق له ما يريد.
ولقد سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل أنواع التجارة حتى يعملوا فيها، فنزلت هذه الآية الكريمة.. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11)﴾ (الصف).
وأركان التجارة تكمن في صدق الإيمان بالله والرسول، والتضحية بالمال والنفس في سبيل الله- عزَّ وجل- أي: بالغالي والنفيس.
ومن صور التجارة مع الله- عزَّ وجل- قراءة كتابه، القرآن الكريم، وإقامة الصلاة، والإنفاق من رزق الله تعالى على الإنسان في السر والعلانية، وهذه هي التجارة التي لن تخسر أبدًا، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ
(29)﴾ (فاطر).
إن العبد يصبح له قيمة حينما يتاجر مع سيده، فيبيع ما لا يملك، لمن يملك، ويحصل على الثمن في الحال، هل يمكن أن تتخيل هذا في صفقة من صفقات الدنيا على الإطلاق؟
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾ (التوبة).
إن أفضل أنواع التجارة ليست تجارة الذهب والفضة، ولا تجارة المحاصيل والخضروات، ولا تجارة الملابس والمنسوجات، ولا تجارة النقود والعملات، ولا أي لون من أعراض تجارة الدنيا الزائلة، وإنما أفضلها على الإطلاق، وأسماها وأعلاها، وأخلدها وأبقاها، هي التجارة مع الله- عزَّ وجل- ذلك لأن المتاجر مع الله رابح، والمتاجر مع غير الله خائب وخاسر.
إن هذه التجارة لها طرفان، وعقد وسلعة، أما طرفها الأول: فهو الله- سبحانه وتعالى- خالق النفس وواهب المال، وأما الطرف الآخر: فهو أنت أيها العبد الضعيف، أصبح لك قيمة حينما تكون طرفًا مع سيدك في صفقة تجارية رابحة، أنت لا تملك فيها شيئًا سوى الوفاء بالوعد فقط.
فهذه النفس التي بين جنبيك من الذي خلقها؟ إنما هو الله، وهذه الأموال التي في يدك من الذي رزقها؟ إنما هو الله، فيشتري الله منك ما خلق وما رزق، ويعطيك مقابل ذلك جنة هو المالك لها، فمن الرابح أنت أم الله؟
هذه الصفقة سجَّلها الله في أوثق العقود والمواثيق، ألا وهي كتبه التي أنزلها على رسله ﴿وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ﴾ (التوبة: من الآية111).
هذه السلعة التي تشتريها إنما هي الجنة، وما أدراك ما الجنة؟ إن الله غرسها بيده، وأعدها لعباده الصالحين، "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"، "لبنة من ذهب، ولبنة من فضه، وملاطها المسك، وترابها الزعفران، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، من يدخلها ينعم لا ييأس، ويخلد لا يموت، لا يفنى شبابه، ولا تبلى ثيابه"، "هي ورب الكعبة، نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، وحلل كثيرة، وفاكهة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة"، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "ألا من مشمر للجنة؟" قالوا: نحن المشمرون لها يا رسول الله، قال: "قولوا إن شاء الله" (1).
لقد شمَّر الصحابة عن سواعدهم، وحملوا أرواحهم على أكفهم، وخاضوا معارك كثيرة، إعلاءً للراية، ونصرةً للدين، وتمكينًا له في الأرض، وسعيًا للشهادة في سبيل الله.
إن هؤلاء الصحابة الكرام صدقوا في تجارتهم، وفي بيعهم مع الله، لذلك كانوا من الصادقين، الذين عناهم الله-سبحانه وتعالى- بقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (15)﴾ (الحجرات).
إن هناك عدة جواذب تجذب الإنسان إلى الخلود إلى الأرض، فهي تشده إليها، وهو يحن لها، فهي تنادي عليه وهو يلتفت إليها، لذا كان هذا النداء العلوي من الخبير بالنفوس، الذي يعلم أسرارها وخباياها، قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38)﴾ (التوبة).
ولما كانت النفس البشرية توازن بين الأمور، وتختار ما يتوافق مع مصلحتها نبَّه الله-عز وجل- إلى أهمية حسن الاختيار، بأن يكون هذا الاختيار صوابًا يتمشى مع المنهج الذي يتبعه المسلم، فلا يميل ولا يحيد، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)﴾ (التوبة).