اقرأ: وثيقة عبورنا (الغائبة) إلى حياة أفضل!
لعلَّ أغلب القراء الأربعينيِّين من سكان المدن وما جاورها، ما زالوا يذكرون ببعض الحميمية قصصَ كتب المطالعة في السنين الأولى من المرحلة الابتدائية: (طه والطبلة، والقرد وبائع الطرابيش، وقرد النجار والتقليد الأعمى، والثعلب والعنب)، وغيرها من القصص التي كانت من أولِ ما داعب خيالَنا الطفولي الغضَّ، كان كتابًا غير ملوَّن وبسيطًا في إخراجه، ويحوي صورًا معدودة وبسيطة جدًّا، مستوحاة من معاني القصة وأحداثها، ولم يكُ ينافسه في ذاك الزمنِ الجميل إلا تلك القصص المصوَّرة الواردة من مراكز ثقافية بعيدة في لبنان ومصر؛ مثل: سوبرمان، والوطواط، وتان وتان، ولولو الصغيرة، وميكي، وسندريلا، ومختارات الهلال، وقصص جرجي زيدان، وغيرها.
كما أننا ما زلنا نذكرُ تلك الزيارات النادرة والقصيرة والمملّة لمكتبة المدرسة المَهِيبة؛ حيث تراقبنا بلا رحمةٍ عينُ قيِّم المكتبة العجوز، وتلاحقنا وتحاصرنا، وصوته الأجشُّ، وتعابير وجهه تشي بقلقه البالغ من وجود هؤلاءِ الأطفال العابثين في المكتبة، وخوفه على تصنيف الكتب وأغلفتها وأوراقها من أيدينا الطائشة، ولم تَعْنِ تلك الزيارات – حسب تجارب البعض – حريةَ التجول في المكتبة، والاطلاع والاختيار؛ فالكتاب مقرَّر سلفًا، وما تلك الزيارة إلا لإجبارنا على قراءةٍ صامتة لصفحاتٍ من ذلك الكتاب المقرَّر تُعِيننا على تجاوز عَقَبة الامتحان الكتابي.
دارت عجلة الزمن بوتيرةٍ ومتغيرات ونقلات فاقت أحلامنا وتخيلاتنا.
كَبِرنا وزادت كتبنا المدرسية عددًا، ووزنًا، وإملالاً، وصرامة، وثقلاً في الظل والدم، كما يقولون مجازًا، وغاصت وغابت في بئر اللا شعور، تلك الدغدغةُ الجميلة والإثارة العجيبة لسطورِ (طه والطبلة) وأخواتها، وحرب سوبرمان ضد الجريمة، والشخصية السرية لنبيل فوزي، وقُوَى سوبرمان الخارقة التي لا يضعفها إلا الكريبتونيت الأخضر!
كَبِرنا وعَلَونا في مراحل الدراسة، وغاب الكتابُ والمطالعة الحرَّة عن حياة الكثير منا، وزاحم الكتاب المدرسي بمللِه وسأمه، ورعبه وهمِّه وغمِّه كلَّ ما عداه من الكتب الجميلة، واحتل مقامًا عاليًا بلا منافس، ويا للأسف! فقد اختزلت في ذلك الكتاب المدرسي الكئيب – خلسةً وجهلاً وبخسًا – كل تلك البحور من المعاني والصور، والخيالات والتجارب، والتوقعات التي تحويها كلمة، كانت يومًا ما جميلة ومثيرة؛ "كتاب"، فكَرِهَ الكثير منا الكتاب والمطالعة والقراءة، ليس كرهًا لمعنى الكتاب الأصلي؛ إنما كرهًا باطنًا ومتجذرًا لما آل إليه معنى الكتاب في عقولنا، حينما مسخ وضيّق واختزل معناه في الكتاب المدرسي، الذي يرتبط في عقولنا بالملل والواجبات المدرسية والامتحانات المصيرية!
تبرزُ هذه المقدِّمة المشوِّقة جوانب مهمَّة من إجابة سؤال مهم، يشغل بال المفكرين والباحثين في عالمنا العربي: لماذا نكرهُ القراءة، ونعادي الكتاب؟ ولِمَ ضَعُفت الرغبةُ في المطالعة والقراءة لدى شعوبنا العربية في مختلف الفئات العمرية؟
إنه سؤال مُقلِق ومهم، ولا يشغل أمرُه أهلَ التربية والتعليم فقط، ولكنه هاجس حضاري كبير يتحدَّى المختصين والخبراء في عددٍ من المجالات المهمة، ذات الصلة الوثيقة بالمشاريع والمبادرات التنموية على مستوى الدول والشعوب:
مجتمع المعرفة، الاقتصاد المعرفي، قرب نهاية اقتصادِ الموارد، الحاجة إلى القُوَى العاملة ذات الأساس المعرفي، النقلة إلى مجتمع المعرفة، مواكبة التوجُّه العالمي المعرفي… هذه أمثلةٌ لطائفةٍ من المصطلحات والموضوعات الجديدة التي بدأت تظهر وتتكرَّر في الآونة الأخيرة في طرحنا الإعلامي ومنتدياتنا، ويكثر الحديث والنقاش والخلاف حولها في لقاءاتنا ووِرَش العمل، ومؤتمراتنا وخططنا التعليمية ومشاريعنا التنموية.
لن نعرضَ في هذا السياق شرحًا وتفصيلاً لمجتمع المعرفة، ولسنا في مقامنا هذا بصدد الدعوة إليه، وبيان محاسنه، والدفاع عن مدرسته الفكرية، أو نقد الفكرة من أساسها، ويكفينا الإشارة إلى عموم الفكرة، وكونها تمثِّل توجهًا عالميًّا يجذب – لأسباب عديدة – بوصلة الفكر والبحث والتخطيط ورأس المال، والمشاريع في دول كثيرة، وما يَعْنِينا هنا هو الخطوط العريضة، وتحديدًا صلة موضوع حديثنا عن دراسة وعلاج العزوف الجماعي عن القراءة في بلداننا، والنقلة التنموية المرجوَّة من حالنا وأوضاعنا إلى حال وأوضاع أفضل من شتى النواحي، بما فيها الناحية المعرفية، وسوف نهتم ونركِّز على الحقائق والمضامين والنتائج، أكثر من الأسماء والمصطلحات التي يسهل الخلاف حولها.
تتولَّد من الصلة بين موضوع حديثنا ومصطلح مجتمع المعرفة فرضيةٌ في غاية الأهمية، تستحق الكثير من البحث التجريبي الممنهج؛ للنظر في أثرها وثقلها، ومن الأفضل – منهجيًّا وبحثيًّا – أن نعرضَ هذه الفرضية في صيغة سؤالٍ يحتاج للبحث المؤسَّسي المنهجي والمركز، ولا تغني في إجابته الظنون والأجوبة البديهية والعفوية: ما أهمية وأثر مستوى القراءة الشعبي في النقلة إلى مجتمع واقتصاد أساسهما المعرفة؟
تابع
لن نَحِيد عن مسارِ بحثنا بالخوض في إجابة السؤال السابق، فما عَرَضناه إلا لبيانِ أهمية دراسة الصلة المزعومة بين القراءة والتوجُّهات التنموية الكبرى على المستوى الدولي، ويَكفِينا من هذا الجانب التركيزُ على أهمية القراءة في الارتقاء بالفكر الإنساني عمومًا، ونفعها في مجال التجسير والفهم والحوار الحضاري الفاعل بين الشعوب، ولنواصل الحديث عن جوانب أكثر مساسًا بموضوعنا.
هنالك مجموعةٌ من التحدِّيات التي قد تُعزَى إليها ظاهرةُ العزوف عن القراءة ومعاداة الكتاب في عالمنا العربي، لعل من أهمها – للمثال لا للحصر -:
• ما ذكرنا سابقًا من انحصار العملية التعليمية في حدود الكتاب المدرسي غير المشوق.
• ضعف القدرة اللغوية لدى القراء عمومًا والناشئة خصوصًا.
• استعراض العضلات اللغوية والتقعُّر والتفاصح من جهة الكتَّاب.
• التخلُّف في صناعة المعرفة العربية الأصيلة وإنتاجها.
• الاكتفاء بالترجمة من اللغات الأخرى؛ مما يجعل استهلاكنا للمعرفة يفوقُ صناعتنا لها.
• تخلُّف صناعة الكتاب في أدب الأطفال خصوصًا، وتدنِّيه من ناحية الجَوْدة في المضمون والإخراج.
• غياب الكتاب والقراءة عن أساليبِنا التربوية وحياتنا عمومًا.
• عدم غرس حب المطالعة والقراءة الحرَّة لدى الناشئة بأساليب منهجية مجرَّبة وفاعلة.
• هجر البالغين للقراءة أدَّى إلى ندرة القدوات القارئين، وإضعاف تعليم القراءة عن طريق القدوة والمحاكاة.
• إهمال الأساليب المنهجية في تعليم القراءة وتحبيبها لشتَّى الفئات العمرية.
• غياب المعايير والمنهجية في إنتاج الكتب من ناحية ملاءمة لغتها ومحتواها، وإخراجها لمستوى القارئ وعمره وحاجاته.
إن الاهتمام بما يسمَّى "أدب الأطفال" في عالمنا العربي لَيُعدُّ من أهم الجبهات التي تُعِين على الغرس المبكِّر لحب الاطّلاع والقراءة الحرَّة في السنين الأولى من حياة الفرد، وكما أسلفنا القول عن التحدّيات في مجال القراءة، فإن النوايا الحسنة – مع أهميتها – لا تكفي لإنتاج أدبٍ يخاطب الطفل بطريقة فاعلة ومؤثِّرة؛ إذ لا يتصوَّر إنتاج أدب للطفل ذي معنى وفائدة في غياب الأساليب العلمية والنفسية والمنهجية؛ فلقد أضحى أدبُ الطفل فنًّا وعلمًا مستقلاًّ بذاته، وتخصصًا أكاديميًّا، وله مدارسه وخبراؤه، ومؤتمراته، ومصنفاته، واتجاهاته، وأساليبه، ومنهجياته، ورصيدُه المتراكم من الخبرات والتجارب والأخطاء، ومن الإنصاف أن نقرَّ بالحاجة إلى مَنْهَجة ومعيَرة أدب الطفل في عالمنا العربي، وانتشاله من مزالق عدة: عفوية النية الحسنة، وتواكل الترجمة، واستنساخ الجهود، وتدنِّي الأصالة، وضعف الإخراج والمخرجات مقارنة بجهود دول كثيرة تُولي هذا المجال أهميةً قصوى تفوقُ بمراحل ما لدينا.
لعلنا نختم بحثنا هذا بتوصيات مهمَّة في مجال تأسيس ومنهجة ومعيارية "أدب الطفل" في عالمنا العربي، وهذه التوصيات تذكر وتركز؛ كما أشارت "الأستاذة أميمة الخميس" في أحد اللقاءات، (لها عدة مؤلفات في أدب الطفولة)، بصراحة شديدة إلى حقيقة وخلاصة مهمَّة لتجربتها في الكتابة للطفل: "إن الكتابة للطفل عمل كبير ومتعدِّد الجوانب، يتجاوز طاقة الأفراد مهما كانوا متميزين، ويحتاج بكل صراحة وتجرُّد وأمانة إلى عملٍ مؤسسي وفريق متعدِّد المواهب، يشارك فيه مختصُّون وخبراء في جوانب عديدة"!
هذه التوصيات هي:
1- الإفادة من الخبرات العالمية في مجال أدب الطفل.
2- تكوين مجموعات بحثية متعدِّدة ومتكاملة تهتمُّ بالجوانب المتعلِّقة بأدب الطفل، في هذا السياق نذكر مثالاً لمشروع رائد "بالعربي 21"، تقوم عليه مؤسسة الفكر العربي بلبنان، بقيادة المساند للفكر "الأمير خالد الفيصل آل سعود".
3- معيارية أدب الطفل، ومن الجهود في هذا المجال: معايير أدب الأطفال التي أنتجتها بحوثُ ودراساتُ مؤسسةِ الفكر العربي، ولمَن أراد الاستزادةَ الرجوع إلى موقع المؤسسة وأدبياتها، ومن العاملين في المؤسسة الدكتورة "إيفا كوزوما" (باحثة لبنانية)، والدكتورة "منيرة الناهض" (من الخليج العربي).
4- مراعاة الفروق في الاهتمامات بين الذكور والإناث من الأطفال، كما تبرزها الأبحاث المنهجية، فبعض البحوث – مثلاً – تُشِير إلى تفضيل الإناث من الأطفال للمغامرات، وتفضيل الذكور للفكاهة.
5- تُشِير بعض البحوث الغربية إلى تدنِّي مستوى القراءة بعد الصف الدراسي الرابع، مقارنة بسابقه، ولعل هذا البحث يؤكِّد أهميةَ القيام بدراسات مشابهة في عالمنا العربي لتحديدِ المرحلة المناسبة للتدخل العلاجي المنهجي، ولا يستبعد أن التدخُّل يجب أن يبدأ في مرحلة رياض الأطفال أو ما قبلها في المنزل!
6- القيام بحملات وطنية تستهدفُ إشراكَ الأهالي في علاج المشكلة عن طريق أساليب عدة؛ منها القراءة الجهرية اليومية للطفل من قِبَل الوالدين أو الإخوان الكبار، ولهذا الأسلوب منافع مثبتة؛ منها: تعليم الطفل فنَّ الإصغاء – إثراء رصيده اللغوي – تعزيز القيم والأخلاق.
7- حماية أدب الطفل من الترهُّل الناتج من المبالغة في الشحن الوعظي، ويكفي في القصة – مثلاً – التركيز على خُلق أو خُلُقين في ثنايا قصة مشوِّقة وجاذبة، مع الإفادة من إرثنا الإسلامي في استيحاء بعض أفكار وقصص أدب الأطفال لدينا.
8- إثراء أدب الطفل بجاذبية القصص، وسحر الحكاية، وتماهي شخصية الطفل مع ما يقرأ في أدب الطفل.
9- إن أجمل توصيةٍ في مجال تأسيس ومنهجة والارتقاء بأدب الطفل في عالمنا العربي، هي عدم استسهال أدب الطفل، فنحن أمام تصحيح جذري للمفاهيم وتحدٍّ كبير، هو الصعود إلى مستوى الطفل وأدبه لفَهمه فهمًا صحيحًا، ولن يغني في هذا المجال اعتقادنا القديم والقاصر وغير المثمر، بأننا بوصفنا كبارًا وناضجين نحتاج أن ننزل من عليائنا إلى مستوى الطفل وأدبه.
10- وتلخيصًا: فإننا نحتاج للارتقاء بأدب الطفل لدينا إلى الصعود إلى مستوى الطفل، والصعود مرهقٌ، ولا يجيده إلا القلة؛ إذ هو يتطلب جهدًا ودراسة وبحثًا ومنهجية، أساسها تقدير هذا الكائن الصغير المملوء بالعجائب والتحدي، والذي نسمِّيه تجاوزًا "الطفل"!م/ن
موضوع قيم جدااا
شكرا جزيلا
الله يعطيك العافيه مجهود تشكر ي عليه
دمتِ بحفظ الله