تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » ""حـــــــــج القلوب "" -اسلاميات

""حـــــــــج القلوب "" -اسلاميات 2024.

""حـــــــــج القلوب ""

——————————————————————————–

بين الشوق إلى اللقاء والتعلق والرجاء
بقلم: محيي الدين حسين يوسف الإسنوي
(1)
شد قومٌ كتب الله تعالى لهم الحج رحالهم للأرض المقدسة، وقد تحقق فيهم أعظم معاني العبودية لله تعالى، قد أجابوا نداء الخليل إبراهيم: (وأذن في الناس بالحج)، وامتثلوا قول الحق: ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ).
فخرجوا من بيوتهم إلى ربهم مهاجرين، لأموالهم وأهلهم تاركين، من مخيط ثيابهم ومناصبهم متجردين، أحرموا لله، قد حسرت رؤوسهم، وصفت نفوسهم، وخشعت قلوبهم، وبالدمع سالت عيونهم، ألسنتهم رطبة من ذكر الله، تسبح وتلبي المخلوقات بتسبيحهم وتلبيتهم، فاجتمعوا في يوم الحج الأكبر، يوم المؤتمر الأعظم، يرجون رحمة الله ويخافون عذابه.

يـــا ســائـراً نــحـو الـنـبـي iiمـشـمراً
اجهد فديتك في المسير وفي السرى
وتـــذرع الـصـبر الـجـميل ولا iiتـكـن
فــي مـطـلب الـمـجد الأثـيل iiمـقصرا
وتـــوخ آثـــار الـنـبـي فــضـع iiبـهـا
مـتـشرفاً خـديـك فــي عـقـر iiالـثـرى
واعــلـم بــأنـك مــا رأيــت iiشـبـيهها
مـذ كنت في ماضي الزمان ولا iiيرى

(2)
وعلى جانب آخر وقف قوم بين يدي الحق تعالى، لم يكتب لهم المسير إلى هذا الموقف العظيم، هزهم الحب والشوق إلى لقاء الله (والذين آمنوا أشد حباً لله)، كما قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: «فالشوق إلى لقاء الله عز وجل يُشَوِّقُه إلى أسباب اللقاء لا محالة، هذا مع أن المحب مشتاق إلى كل ما له إلى محبوبه إضافة … والبيت مضاف لله عز وجل، فبالحري أن يشتاق إليه لمجرد هذه الإضافة، فضلا عن الطلب لنيل ما وعد عليه من الثواب الجزيل».
وهذا الحب والشوق المتأجج في القلوب لا تسكن جَذوتُه إلا بمُشَاهَدٍ يوجِّه المحب إليه أشواقَه، ويقضي به حنينه ويذَكِّرُه بالمحبوب سبحانه.
وإذ قد منعهم العذر عن شد رحال الأجساد، توجهت قلوبهم وأرواحهم للقاء محبوبهم، وتعلقت بالبيت والمشاعر، فعظموها كما أمر الله* (‬ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)، كلما ذكر لهم البيت والمشاعر حنوا، وكلما تذكروا بعدهم بكوا وأنوا، ويحق لمن رأى الواصلين وهو منقطع أن يقلق، ولمن شاهد السائرين إلى دار الأحبة وهو قاعد أن يحزن، غبطة لمن وصلهم الله لا حسدا، لسان حالهم يقول:

لــلــه در ركــائــب ســــارت بــهــم
تطوي القفار الشاسعات على الدجى
رحـلوا إلـى الـبيت الحرام وقد iiشجا
قـلـب الـمـتيم مـنـهم مــا قــد شـجـا
نــزلــوا بــبــاب لا يــخـيـب iiنـزيـلـه
وقـلـوبـهم بــيـن الـمـخافة iiوالـرجـا

وألسنتهم تردد قول الشاعر المحب:

يــا راحـلـين إلـى مـنى بـقيادي
هـيجتموا يـوم الـرحيل فـؤادي
سرتم و سار دليلكم يا وحشتي
الشوق أقلقني وصوت iiالحادي

وما أرق وأجمل قول الشاعر:

ألا قـــل لــزوار دار الـحـبيب
هـنيئا لـكم في الجنان iiالخلود
أفيضوا علينا من الماء فيضا
فـنـحن عـطاش وأنـتم iiورود

(3)
والمتخلف لعذر لا شك أنه شريك للسائر في الأجر، ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزاة فقال: (إن أقواماً بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه حبسهم العذر ).
ورحم الله ابن العريف إذ يقول:

شدوا المطىّ، وقد نالوا المنى بمنى
وكـلـهـم بـألـيـم الـشـوق قــد iiبـاحـا
ســارت ركـائـبهم تـنـدى iiروائـحـها
طـيـباً بـما طـاب ذاك الـوفد iiأشـباحا
نـسـيم قـبـر الـنـبى الـمصطفى iiلـهم
روح إذا شـربـوا مــن ذكــره iiراحـا
يـاواصلين إلـى الـمختار مـن iiمـضر
زرتـم جـسوماً وزرنـا نـحن أرواحـا
إنــا أقـمـنا عـلـى عــذر وعــن قـدر
ومــن أقــام عـلى عـذر كـمن iiراحـا

وقال آخر:

يـا سـائرين إلـى الحبيب iiترفقوا
فـالـقـلب بــيـن رحـالـكم iiخـلـفته
مـالي سـوى قـلبي و فيك iiأذبته
مالي سوى دمعي و فيك سكبته

ثم:

هذه الخيف و هاتيك منى
فـترفق أيـها الـحادي iiبـنا
سـار قـلبي خلف iiأحمالكم
غـير أن العذر عاق البدنا

(4)
ولأهل الله تعالى من حج القلوب والأرواح النصيب الأوفر والقدر الأكبر، وربما خرقت العوائد فرآهم الناس، وربما وكل الله تعالى من ملائكته من يحج عنهم، وقد ذكر ذلك في كتب القوم عن كثير من الصالحين، ومن ذلك ما أورده الإمام السيوطي في كتابه (تنوير الحلك في جواز رؤية النبي والملك)، أن بعض تلاميذ الشيخ تاج الدين ابن عطاء رأى الشيخ في الطواف وفي عرفة وسائر المشاهد، فلما رجع إلى القاهرة سأل عن الشيخ فقيل لي: طيب فقلت: هل سافر ؟ قالوا: لا ، فجاء إلى الشيخ فقال له الشيخ: من رأيت؟ فقال: يا سيدي رأيتك، فقال: يا فلان الرجل الكبير يملأ الكون .
وإن قصيدة شيخنا الإمام الرائد رحمه الله تعالى التي سماها (لون من حج القلوب) لتحمل بين طياتها الكثير من الأسرار والأنوار، وذلك أنه حدا به الشوق فسار قلبه مع الركبان، فكان مما قال:

لـلـناس مـوسـم حـج واعـتمار iiتُـقى
ومـوسـمي كــل أدهـاري iiوأعـوامي
هـــــم يــحـرمـون لأيــــام iiمــقــدرة
ومــحــرمٌ أنــــا أوقــاتــي iiوأيــامـي
أصـاحب الـركب إن حلوا وإن ظعنوا
ســيـراً بـقـلـبي لا ســيـراً iiبـأقـدامـي
أغـيـب فــي عَــدَد مــن بـعـده iiمــدد
مــقـدس دونـــه عـلـمـي iiوأعـلامـي
أطوف بالروح، أو أسعى وأكرع من
أمـواه زمـزم، شـأن الـهائم iiالـظامي
وأقـبـس الـنـار والأنــوار عـند مـنىً
وأشـهد الـغيب فـي وجدي iiوتهيامي
وفـــي ربــى عـرفـات لـلـه مـعـرفتي
بالله فــي مـشـهدي نـجـوى وإلـهـام
وفـــي الــزيـارة لـلـمـختار يـغـمرني
مـن سـره فـيض تـكريمي iiوإكـرامي
هـنـا مـن الـغيب شـيء لا أبـوح iiبـه
حـــقٌ مــن الـحـق لا وهــم iiبـأوهـام
وقـــد يــرانـي أحـبـائي هـنـاك iiومــا
فــارقـت داري بـعـجـزي أو بـآثـامي
مـنـهـم ذهــابٌ وعــود دائــبٌ iiوأنــا
مـا بـين روضة طه والحطيم iiمقامي
والـروح مـن عـالم الإطلاق أكبر من
حـــــد وقــيــد وأزمــــان iiوأحــكــام

ولشيخنا الإمام الرائد رحمه الله – أيضاً – قطعة أدبية رائقة حول حال أهل الشوق عنوانها: (ذكروني فذكرت)، ضمنها أبياتاً للإمام السيد إبراهيم الخليل رضي الله عنه، نقتطف منها قول شيخنا الرائد، عليه سحائب الغفران والرضوان:
(… وما يزال يغلبني الحنين، ويغالبني الأنين، ويقهرني البكاء، حتى لكأن الدموع دماء، فأتعزى بقول السيد الوالد رضي الله عنه:

إن قـصر الـمال أو إن قـصرت iiهـممي
أحـــج بــالـروح حــج الـنـاس iiبـالـقدم
أطــوف بـالـبيت أو أسـعـى عـلـى iiثـقة
فـي مـشهد مـن مـجالي الـغيب مزدحم
مــهـيـم فــــي أداء الــنـسـك iiمـجـتـهد
تهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي
يــرانـي الــنـاس طـيـفـاً ثـــم بـيـنـهمو
عـلـى مـقـامي فـلـم أحــرم مـن iiالـحرم

ثم ذكروا لي الحبيب المصطفى، ومنازلات أهل الصفا والوفا، والعفو عمن جفا وهفا، ومن كان على شفا، والمدد الممدود بين ما ظهر وما اختفى، والعطاء الموهوب فيما ثبت وما انتفى، فزاد بي الشوق، عن مدى الطوق، وغاب عن التحت والفوق…) إلى آخر ما قال، من كلام أهل الشوق والحال.

(5)
أما بعد، فهؤلاء القوم علموا أن الله تعالى جعل لهم من الأعمال عظيمة الأجر في الأيام العشر، من التسبيح والتكبير والصيام، ما يجعل لهم شبهاً بوفد الله تعالى، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر؛ فأكثروا فيهن من التهليل والتحميد) رواه أحمد، وأن هذه الأعمال تقوم مقام الحج والعمرة لمن عجز عنهما، بالجزاء لا بالأجزاء (إنما الأعمال بالنيات)، فليست العبرة بأعمال الجوارح فقط، وإنما الاعتبار بلين القلوب وتقواها وتطهيرها من الأدران والآثام!!!.
سفر الدنيا يقطع بسير الأبدان.. وسفر الآخرة يقطع بسير القلوب مع الأبدان.. وليس الشأن أن تقوم الليل صافاً قدميك ثم تصبح مع الركب، لكن الشأن كل الشأن أن تبيت في فراشك ثم تصبح وقد سبقت الركب.
لقد رأى بعض الصالحين الحجيج في وقت خروجهم فوقف يبكي ويقول:

فـقلت: دعوني واتباعي iiركابكم
أكن طوع أيديكم كما يفعل العبد

ثم تنفس وقال: هذه حسرة من انقطع عن الوصول إلى البيت، فكيف تكون حسرة من انقطع عن الوصول إلى رب البيت؟!!

يا سائق العيس ترفق و استمع
مــنـي و بــلـغ الــسـلام عــنـي
عــرض بـذكري عـندهم iiلـعلهم
إن ســمـعـوك ســألـوك iiعــنـي

(6)
وفي هذا يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله:
من فاته هذا العام المقام بعرفة، فليقم بحقه الذي عرفه.
من عجز عن المبيت بمزدلفة، فليبيت عزمه على طاعة الله وقد قربه وأزلفه.
من لم يمكنه القيام بأرجاء الخيف، فليقم بحق الرجاء والخوف.
من لم يقدر على نحر هديه بمنى، فليذبح هواه هنا، وقد بلغ المنى.
إن حُبستم العام عن الحج فارجعوا إلى جهاد النفوس، أو أُحصرتم عن أداء النسك فأريقوا على تخلفكم من الدموع ما تيسر، فإن إراقة الدماء لازمة للمحصَر، ولا تحلقوا رءوس أديانكم بالذنوب، فإن الذنوب حالقة الدين ليست حالقة الشعر، وقوموا لله باستشعار الرجاء والخوف مقام القيام بأرجاء الخيف والمشعر، ومن كان قد بعد عن حرم الله فلا يبعد نفسه بالذنوب عن رحمة الله، فإن رحمة الله قريب ممن تاب إليه واستغفر، ومن عجز عن حج البيت أو البيت منه بعيد، فليقصد رب البيت، فإنه ممن دعاه ورجاه، أقرب إليه من حبل الوريد.

ط®ظ„ظٹط¬ظٹط©

لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك
ط®ظ„ظٹط¬ظٹط©
شكرا لكن على الردود الجميلة للغاية
ط®ظ„ظٹط¬ظٹط©
شكرا لك اختى في الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.