خلق الله تبارك وتعالى هذه الحياة وجعلها دار امتحان لبني آدم {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]، وجعل لهذا الامتحان صورا وأشكالا متعددة، ما بين خير وشر {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، وشاءت حكمة الله تعالى أن يجعل ابتلاء المؤمن وفتنته في الانتقاص من نفسه أو أهله أو ماله {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155]، فيبتليه بمرض أو نقص في جسده، أو بفقد ولد أو حبيب أو عزيز، ويبتليه بالفقر والحاجة، ويبتليه بتسليط الظلمة عليه، ولكنه في كل ذلك متعلق بالله، مشدود إلى جنابه العظيم، لا تزيده تلك المحن إلا صلابة في دينه وقوة في عقيدته، بخلاف المنافق الذي يمهله الله ويستدرجه ويمد له في أسباب الصحة والثروة، ثم إذا ابتلاه بشيء من الشدة سقط في أول اختبار، وفي هذا الحديث يشبه النبي صلي الله عليه وسلم حال المؤمن وحال المنافق في تفاعلهما وتأثر كل منهما بالمحنة والفتنة، فالمؤمن أشبه بالنبتة الغضة اللينة التي تميل مع الرياح لكنها لا تنقلع بل تزداد مع حركات الرياح تشبثا بالأرض وارتفاعا في السماء، أما المنافق فهو أشبه بالشجرة الصماء التي لا تتحرك مع الرياح، بل تنقى على حالها حتى تأتيها ريح تقتلعها من جذورها. حقيقة الابتلاء وسره (الدنيا دار امتحان وابتلاء):
إن الله خلق الإنسان بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة وجعل له تمام التكريم فقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، ولا يعقل بعد كل هذا التكريم أن يسلط الله عليه ما فيه حرج ومشقة وشدة، خصوصا وأن المسلم يعلم يقينا أن الله أرحم بعباده من الأم بولدها، وإنما الابتلاء والشدائد لتمحيص الخلق ولإظهار حقيقة معادن الناس، قال سبحانه: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179] وقال سبحانه عن قتال الكفار ومجالدة الظالمين : {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4]، بل جعل الله هذا الابتلاء سنة من سننه فقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]، والله يبتلي العباد بعضهم ببعض {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53].
وقد جعل الله الابتلاء مقدمة التمكين لأنبيائه وأوليائه، فما من رسول إلا ابتلاه الله تعالى بجماعة من المكذبين الضالين، فحاربوه وصدوا عن دعوته، فصبر وصابر حتى كتب الله له الغلبة عليهم بعد طول مغالبة {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34]، وقال تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 13، 14] وقد فقه الإمام الشافعي هذه الحقيقة، فقد قال ابن القيّم رحمه الله في الفوائد: سأل رجل الشّافعيّ رحمه الله، فقال: يا أبا عبد الله، أيّهما أفضل للرّجل أن يمكّن (فيشكر الله عزّ وجلّ) أو يبتلى (بالشّرّ فيصبر) ؟ فقال الشّافعيّ: لا يمكّن حتّى يبتلى، فإنّ الله ابتلى نوحا وإبراهيم ومحمّدا، صلوات الله عليهم أجمعين، فلمّا صبروا مكّنهم، فلا يظنّ أحد أن يخلص من الألم البتّة. وقد أكد الله تبارك وتعالى أن توبة أولئك السادرين في غيهم حتى يأتيهم الموت {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 18].
ودعونا نختم هذا الحديث بهذه القصة التي تبين عاقبة الصدق في التوبة إلى الله، والتي رواها ابو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء عن التابعي الجليل بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيِّ قال: «إِنَّ قَصَّابًا (أي جزارا) أُولِعَ بِجَارِيَةٍ لِبَعْضِ جِيرَانِهِ، فَأَرْسَلَهَا مَوْلَاهَا إِلَى حَاجَةٍ لَهُمْ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَتَبِعَهَا فَرَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَقَالَتْ: لَا تَفْعَلْ، لَأَنَا أَشَدُّ حُبًّا لَكَ مِنْكَ، وَلَكِنِّي أَخَافُ اللهَ، قَالَ: فَأَنْتِ تَخَافِينَهُ وَأَنَا لَا أَخَافُهُ! فَرَجَعَ تَائِبًا، فَأَصَابَهُ الْعَطَشُ حَتَّى كَادَ يَنْقَطِعُ عُنُقُهُ، فَإِذَا هُوَ بِرَسُولٍ لِبَعْضِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: الْعَطَشُ. قَالَ: تَعَالَ حَتَّى نَدْعُوَ حَتَّى تُظِلَّنَا سَحَابَةٌ حَتَّى نَدْخُلَ الْقَرْيَةَ، قَالَ: مَا لِيَ مِنْ عَمِلٍ فَأَدْعُوَ. قَالَ: فَأَنَا أَدْعُو، وَأَمِّنْ أَنْتَ. قَالَ: فَدَعَا الرَّسُولُ وَأَمَّنَ هُوَ، فَأَظَلَّتْهُمَا سَحَابَةٌ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الْقَرْيَةِ، فَأَخَذَ الْقَصَّابُ إِلَى مَكَانِهِ، وَمَالَتِ السَّحَابَةُ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ: زَعَمْتَ أَنْ لَيْسَ لَكَ عَمَلٌ، وَأَنَا الَّذِي دَعَوْتُ وَأَنْتَ الَّذِي أَمَّنْتَ، فَأَظَلَّتْنَا سَحَابَةٌ ثُمَّ تَبِعَتْكَ، لَتُخْبِرَنِّي بِأَمْرِكَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ: إِنَّ التَّائِبَ مِنَ اللهِ بِمَكَانٍ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بِمَكَانِهِ».
جزاك الله خيرا