** ** قبل أسابيع قليلة توفي الكاتب المشهور محمود السعدني، وهو كاتب معروف بكتاباته الساخرة، ولقب نفسه بالولد الشقي، وكان حاد الذاكرة سريع البديهة، عرف خلال حياته بسخريته ومبادئه التي دفع ثمناً لها التغرب لسنوات خارج بلاده. هذا الكاتب الساخر الحاد الذاكرة السريع البديهة الذي كتب كتباً عن تجربته في الحياة، كان في السنوات الثلاث الأخيرة – وكان قد تقدم في العمر – قد أصبح لا يتذكر أسماء حتى أقرب الأشخاص إليه، كان يعاني من مرض معروف ولكن لم يستطع أحد أن يذكر ذلك! كان يعاني من الزهايمر (العته) ولكن حسب ثقافتنا العربية فإنه من الصعب الاعتراف بإصابة شخص ما بهذا المرض، حيث يعتبر – حسب الأعراف عندنا – أن الإصابة بهذا المرض فيه نوع من الانتقاص من قدر الشخص الذي يعاني منه، برغم أن هذا المرض واحد من أكثر الأمراض انتشاراً بين كبار السن، خاصة الذين يتجاوزون السبعين أو الثمانين وهناك تناسب طردي بين الكبر في السن والإصابة بمرض الزهايمر. مرض الزهايمر هو مرض عضوي يصيب الدماغ ويجعل الشخص يفقد الذاكرة للأشياء الحديثة في بداية المرض، ثم يتدهور الشخص المصاب بمرض الزهايمر حتى أنه يصبح لا يعرف أسماء أقرب الناس إليه؛ مثل أبنائه وبناته وزوجته، في هذه المرحلة من المرض يكون المريض بالزهايمر قد بلغ مرحلة متطورة ويصبح لا يستطيع التحكم في التبرز والبول مما يجعله يحتاج لمن يلازمه طوال الأربع والعشرين ساعة.
خلال فترة قرأت كتابين عن الزهايمر أحدهما للروائي المغربي الطاهر بنجلون وعنوانه "حين تترنح ذاكرة أمي" والثاني للروائية اللبنانية علوية صبح بعنوان "اسمه الغرام".
يعانون من أمراض متعددة
يقول الطاهر بنجلون "تحولت أمي منذ مرضها إلى كائن نحيل صغير ذي ذاكرة مترنحة. فهي تنادي أفراد عائلتها الذين ماتوا من زمن بعيد. تكلمهم. يدهشها أن والدتها لا تزورها، لكنها تثني على أخيها الصغير لأنه، كما تقول، يحمل إليها هدايا. يسهرون معها وهي في فراشها. أتجنب إزعاجهم مثلما أحرص على عدم مضايقتها. خادمتها كلثوم تقول متأوهة: تظن أنها في فاس في عام ولادتك!".
هذا وصف صادق لشخص مصاب بمرض الزهايمر، يصف الابن بها والدته، ويضيف الكاتب: "تنكفئ أمي إلى طفولتي. تتقهقر ذاكرتها. تتبعثر فوق الأرض المبللة. خارج الزمن تعيش منسحبة من الواقع. تنفعل لأمور قديمة تتوارد إلى ذهنها. تسألني كل ربع ساعة: كم طفلاً عندي؟. وفي كل مرة أجيبها الجواب نفسه. هذا يغيظ كلثوم التي تقول إنها لم تعد تطيق سماع السؤال نفسه والجواب نفسه".
ثم يصف الكاتب والدته عندما تكون في حالة نفسية جيدة وتعي ما يحدث حولها فتقول: "أنا لست حمقاء. كلثوم تعتقد أنني فتاة صغيرة. توبخني. تهددني. لكنني أعرف أن مداومتي على الأدوية لها أثر يوهمني بأنها خبيثة. إنها بالعكس طيبة. كل ما في الأمر أن تفرغها للعناية بي بدأ يزعجها ويتعبها. فهي التي تنظفني كل صباح. تعرف ياولدي أنها هي التي تجمع (برازي). وهو ما لا أستطيع أن أطلب منك أو من أخيك فعله. لذلك، لا حيلة لي سوى أن أغمض عيني عن كثير من ردود أفعالها…". يستعرض بعد ذلك الكاتب وضع والدته بعد أصابتها بمرض الزهايمر: "كيف أنسى أن أمي هي الآن بين يدي امرأة أصبحت مع مرور الوقت قاسية بذيئة خشنة؟ لماذا تستعيد أمي طفولتي تحت نظرات هذه المرأة الفظة؟". ثم يتحدث عن بعض الهلاوس التي تصيب الأشخاص الذين يعانون من الزهايمر: "تقول إنها رأت رجلاً وامرأة في ردهة مدخل الدار لعلهما جاءا لشراء دارنا القديمة بفاس. تحذرني من تخفيض الثمن: الوقت صعب والحرب لم تنته بعد. ثم إن والدك لن يرضيه أن تباع الدار بثمن بخس. سمعت الرجل يقول للمرأة إنها صفقة مربحة. علينا إذن أن نغتنم الفرصة. كأنهما يعيشان معنا ويعرفان إننا نتخبط في وضعية مالية صعبة! ليس الرجل من فاس. لهجته جبلية. رجال فاس أكثر أناقة. وفي كل الأحوال، لن تبيع الدار".
خلل في الدماغ
ثم يأتي الموقف الصعب، وهو كيفية التعامل مع شخص يعاني من الزهايمر: "بالأمس طلبت مني كلثوم، وهي مرتبكة أن أشتري خِرقاً من ورق لأن سلس البول استفحل لدى أمي. لكن أمي ترفض وضعها بين فخذيها. تتعمد أن تزيل منها الجزء اللاصق وترميها تحت السرير. تثور أعصاب كلثوم. لم تعد قادرة على التحمل. تقول لي: أنتم، أبناءها، تزورونها وتبادرون إلى الانصراف. أما أنا فأبقى هنا الوقت كله، نهاراً وليلاً، وخاصة بالليل. نومها مضطرب. توقظنا لتحدثنا عن فاس وعن إخوتها الذين لم يعد لهم وجود في هذه الدنيا. اطلبوا من الطبيب أن يعطيها دواء يعيد لها رشدها أو أن ينومها. لقد عيل صبري".
تحدث الكاتب عن العناية بمرضى الزهايمر، الذين يتطلب العناية بهم، صبراً كثيراً وطويلاً، فهم يحتاجون لمن يكون على استعداد للعناية لمدة أربع وعشرين ساعة وهذا أمر في غاية الصعوبة أن يقوم به شخص واحد، لذلك فإن مريضا واحدا بالزهايمر يحتاج إلى أكثر من شخص للعناية به. أكثر العائلات المقتدرة تضع ممرضين اثنين أو أكثر للعناية بمريضهم ولكن بعض الأسر ليس لديها القدرة المالية على أن يتكفلوا بوالدهم أو قريبهم الذي يعاني من الزهايمر. في الدول الأوربية مثل السويد تؤمن الدولة ممرضا لكل مريض يعاني من الزهايمر على مدى أربع وعشرين ساعة، وفي بريطانيا مثلاً يعطون من يتفرغ لرعاية قريبة الذي يعاني من الزهايمر مرتبه كاملاً إذا بقي في المنزل يرعي هذا القريب، لأن البديل الآخر هو أن ينتقل هذا المريض إلى دور العجزة أو إلى مستشفيات الحكومة وتكون التكلفة أكبر مما يعطى لقريب المريض لو قبل بأن يرعى قريبه. ورعاية مريض بالزهايمر صعبة كما وصفها الكاتب ومتطلبة حيث ليس هناك مجال لترك المريض لأي وقت دون رعاية.
ثم يصف الكاتب نوبة اخرى من نوبات صفوالعقل عند والدته: "كانت البارحة في تمام صحوها. تذكرت جميع ما قالته لي من أشياء متنافرة ومخالفة للواقع: الله يستر ياولدي! حسبت أن والدك ما يزال حياً يرزق! ولذلك استغربت عدم رجوعه إلى الدار. تبا لهذا الرأس الذي لم يعد يحفظ أي شيء! يخلط الأمور بعضها ببعض، وهذا شيء مخجل. أنا أعرف أن والدك مات منذ عشرة أعوام.
اعرف أن زوجة ابن عمك ماتت قبل ثلاثين سنة في وقت النفاس. ما أكثر الأموات الذين يحومون حول رأسي! لعله مرض السكر. لعلها كثرة الأدوية التي أتجرعها منذ وقت طويل ما يسبب لي هذه الحالة من الهذيان في كلامي. لحسن الحظ أنني اليوم في حالة جيدة. أرى الأمور بجلاء وأعرف جيداً ما يحدث حولي. لكن، قل لي، هذه الدار لن تبيعوها.. لن تبيعوها، أليس كذلك؟ أنا شديدة التعلق بها، أفضلها على الدار التي كنا نسكنها في العام الماضي، تلك التي تطل على البحر. أصحح كلامها: لا، أيْمِا (تعني أمي)، الدار التي تطل على البحر لم نعد نسكن فيها منذ ثلاثين عاماً. والدار حيث أنت الآن هي دارك، وليست جديدة".
هذه الرواية الرائعة والتي تعبر عن حياة ابن لمريضة بمرض الزهايمر ومن حسن الحظ أنه روائي رائع، استطاع أن يكتب عن تجربته في رعاية والدته المصابة بالزهايمر، بلغة أنيقة وفكر عميق عن التجربة الإنسانية مع والدة تصفو أحياناً قليلة وأغلب الوقت تكون في حالة صعبة من عدم الإدراك بالإضافة إلى الأعراض الجسمانية نتيجة كبر السن والمعاناة مع الأمراض العضوية كمرض السكر وارتفاع الضغط والهزال والعناية لشخص ينظف المريض من حاجاته اليومية وإفرازاته الحيوية.. إنها معاناة صعبة. كنت أريد أن أتكلم عن رواية اخرى هي رواية "اسمه الغرام" وهي أيضاً عن التقدم في العمر والزهايمر الذي يصيب بطلة الرواية "نهلا" فتخرج ولا تستطيع أن تعود مرة آخرى للمنزل وتقوم صديقتها سعاد بالبحث عنها في كل مكان..!!.**
وهذه راويه اخرى تستحق المطالعه والتلخيص..