خلق الله عز وجل الشمس والقمر, والليل والنهار لحكم عديدة, ذكرها الله تعالى في كتابه الحكيم, في أماكن متفرقة, فمن ذلك: أن يعلم الناس حساب السنين والأيام من اختلافهما وتعاقبهما,
قال الله تعالى: "وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً" سورة الإسراء:12،
وقال عز وجل: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ سورة يونس:5،
فقد جعل الله تعالى الليل والنهار يتعاقبان, فيخلف كل واحد منهما الآخر, لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ, أي: يستدرك ما فاته من عمل, هذا مع كثرة تكرر هذا التعاقب, وقرب زمانه, فكيف بتعاقب الشهور وتوالي السنين؟! أليس ذلك مدعاة للتذكر والتفكر والاستدراك؟! بلى والله, فهذه دعوة لنا جميعاً أن نتوب إلى الله تعالى, ونستدرك ما فات, فإنما الأعمال بالخواتيم.
وقال تعالى في فائدة العمل بالتاريخ الهجري المرتبط بالقمر: "يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَج" سورة البقرة:189، فجعل الله تعالى معرفة السنين والشهور مستفادة من سير القمر وتنقله في منازله, وذلك من نعم الله على عباده, ورحمته بهم, ومن العجيب أن هذا الأمر يستطيع معرفته وتمييزه كل أحد، ولا يحتاج لعالم فلكي أو خبير جوي، بخلاف حساب السنين والشهور بسير الشمس ومعرفة منازلها التي تحتاج إلى علم وخبرة، فهذه الآية العظيمة التي يراها الناس في سمائهم، عندما يبدو الهلال صغيراً في أول الشهر, ثم يتزايد إلى التمام في نصفه, ثم يشرع في النقص والاضمحلال, إلى الغياب والزوال في آخر الشهر, وهكذا حتى يعرف الناس مواقيت عباداتهم, من الصيام, والحج, وأوقات الزكاة, والكفارات, وغير ذلك من السنن والمكتوبات,
كيف بدأ التاريخ الهجري:
لقد كانت العرب في جاهليتها تؤرخ بأيامها وأحداثها الكبار, ووقائعها العظام, واستمر ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم, وخلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه, وأوائل خلافة عمر الفاروق رضي الله عنه, ثم إنه مع اتساع الخلافة, توافرت أسباب البحث عن تأريخ يعمل به المسلمون, يجتمعون عليه, فجمع عمر الناس سنة: ست عشرة أو سبع عشرة من الهجرة, فشاورهم من أين يبدأ التأريخ؟ فقال بعضهم: من بعث النبي صلى الله عليه وسلم, وقال آخرون: من متوفاه, فقال عمر رضي الله عنه: من خروجه من مكة إلى المدينة, فاتفقوا على ذلك, ثم إنهم تشاوروا في أي شهر تبدأ السنة, فاتفقوا على أن يكون شهر الله المحرم هو أول الشهور في السنة, (وهذه الروايات أو هذه الآثار جمعها الإمام ابن حجر وخرجها في فتح الباري، شرح صحيح البخاري، بقية كِتَاب الْمَنَاقِبِ، باب التَّارِيخِ مِنْ أَيْنَ أَرَّخُوا التَّارِيخَ جـ 7 صـ 315) أي التاريخ الهجري. وقال بعض أهل العلم: "إن الصحابة رضي الله عنهم أخذوا التأريخ بالهجرة من قول الله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ " سورة التوبة:108. ومهما يكن من أمر, فقد استقر هذا التأريخ في أمة الإسلام, منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا, وأصبح التأريخ بالهجرة النبوية الشريفة إلى المدينة, كما تميزت به أمة الإسلام عن غيرها من الأمم.
كيف تم تغيير التاريخ الهجري:
فلما تسرب الجهل والضعف إلى الأمة الإسلامية، وتأثرت بالغزو الفكري، بعد ومع الاحتلال العسكري الذي حاول تشويه كل ما يتميز به المسلمون، أو ما يجعلهم يحافظون على عزتهم وقوتهم، وحاول بكل قوة في عدة بلاد إسلامية تقع تحت الاحتلال تغيير التاريخ الإسلامي وتشويهه، وتغيير هوية المسلمين، وربطهم بثقافة غربية، فتم الهجوم على كل مظهر من مظاهر الإسلام، والتشكيك في القرآن الكريم، والطعن في السنة النبوية، والصحابة الكرام، وتقليل العمل باللغة العربية، وتشجيع واعتماد اللهجات المحلية، وأيضا تغيير التاريخ العربي الإسلامي الهجري, واستبداله بالتاريخ النصراني الإفرنجي، وقد يظن بعض الناس أن التغيير هذا له فائدة لكي يسير العالم على تاريخ موحد، فهذا لم يحدث مع أمم وشعوب كثيرة احتفظت بتاريخها، ولم تتنازل عنه.
ما الهدف من تغيير التاريخ الهجري:
وكان هدف الاحتلال من هذا التغيير عزل أبناء الأمة عن تاريخهم وأمجادهم, وأسلافهم وسالف حضارتهم وعزهم, فكل أمة لا تستطيع أن تصنع مستقبلها ولا أن تصلح واقعها, إلا من خلال دراستها تاريخها ومعرفتها به والاعتزاز به, فبقدر ما تكون الأمة واعية بماضيها, محيطة بتاريخها, حريصة على الإفادة منه, بقدر ما تسمو شخصيتها, وتدرك غايتها, وتعرف سبيل الوصول إلى بغيتها. فالأمة المعزولة عن تاريخها يسهل القضاء عليها, أو تغيير ثقافتها، واجتثاث أصولها، ولذلك حرص الأعداء ومن تربى على مائدتهم إبعاد الأمة عن تاريخها.
ومن مفاسد الاعتماد على التاريخ الإفرنجي, وجعله هو الأصل في حياة الأمة وتعاملاتها: ضياع كثير من الشعائر التعبدية, والمعالم الشرعية, فلا يدري المسلم على متى دخل الشهر الهجري، ولا يعرف موعد الأيام البيض, التي رغب النبي في صيامها, ولا يعرف مواعيد الأشهر الحرم, التي أوجب الله على المؤمنين احترامها وتعظيمها, ولا يعلم ما هي أشهر الحج, ولا يهتم غالبا إلا بشهر رمضان، وحتى شهر رمضان غيروا عقيدة الناس في الاهتمام به وجعلوه شهرا للترفيه والفوازير.
فالتأريخ بتاريخ النصارى الميلادي لا يجوز إلا لحاجة, أو تبعاً للتاريخ الهجري, فعلى المسلم المحافظة على معالم شخصيته, وعدم التشبه بأعداء الله؛ من اليهود والنصارى والمشركين, وغيرهم, فإن الله قد حذرنا من ذلك غاية التحذير, فقال جل ذكره: "وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ" سورة المائدة:51.
منقوول
فقد دخل علينا شهر الله المحرم، وهو شهر عظيم, شهر شرفه الله تعالى وخصه دون سائر الشهور, بأن أضافه إليه, فعلينا حفظ حرمة هذا الشهر, فإنه من الأشهر الحرم, التي قال الله تعالى فيها: "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ"سورة التوبة:36. فهل نقبل على الطاعات، ونبتعد عن المعاصي خاصة سفك الدماء، وهل نبادر فيه بالأعمال الصالحة خاصة الصيام, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((وأفضل الصيام بعد شهر رمضان, شهر الله الذي تدعونه: المحرم)) أخرجه ابن ماجه وغيره، وصححه الألباني .
ومن ضعف عن الإكثار من الصيام طوال شهر الله المحرم، فلا يفوت صيام يوم عاشوراء, فإن فضيلته عظيمة, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يداوم ويتحرى صيامه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن صوم يوم عاشوراء فقال صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره, إلا هذا اليوم؛ يوم عاشوراء, وهذا الشهر يعني شهر رمضان) رواه الشيخان. وكان يحث عليه ويأمر به, فعن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: ((يكفر السنة الماضية)) أخرجه مسلم.
وأما سبب صومه: فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء, فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: هذا يوم صالح, هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم, فصامه موسى, فقال: ((فأنا أحق بموسى منكم)) فصامه وأمر بصيامه. رواه الشيخان. والأفضل أن نصوم يوما قبله ويوما بعده كما ورد في روايات أخرى، وفي أقوال أهل العلم.
عاشوراء و عودة الأمل للمستضعفين
فيوم عاشوراء يوم أعز الله فيه أولياءه وأحبابه, وأذل أعدائه وأعداء رسله, فلذا نحن نصومه شكراً لله تعالى على ذلك, فنصر موسى عليه السلام هو نصر لنا أمة الإسلام, قال الله تعالى: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" سورة الأنبياء:92. فمن قال: لا إله إلا الله, وقام بتوحيد الله, وصدق رسله, ودعا إليه, فهو منا ونحن منه, مهما تباعد الزمان، وبإحياء ذكرى ذلك النصر المجيد، يتجدد الأمل في النصر على كل طاغية وظالم، كما نصر الله تعالى موسى عليه السلام على الطاغية الكبير فرعون.
مع تحياتى
وكل الود
الف شكر